في الكثير من الحروب، تلجأ بعض الجيوش والدول، وبالذات أقسام الدعاية والإعلام العسكرية، إلى فبركة بعض القصص أو إلى ما يسمى بالتدليس، في محاولة للتفسير غير الحقيقي لبعض المواقف والأحداث والوقائع، في سبيل رفع معنويات المقاتلين أو مدارات بعض الأخطاء التي تحصل هنا أو هناك، للتهرب مما قد يترتب عليها من تبعات غير محمودة.
بيد أن هذه الحالات ليست سياسات دائمة أولا، وثانيا، لا يتم استخدامها إلا بذكاء شديد يحفظ لمسوقيها مستوى من الاحترام عند أنصارهم، وفي كثير من الأحيان يتم دحرها إلى مؤخرة الاهتمامات، حتى لا تظل محل سخرية الناس وتتسبب في عكس ما قصد بها.
فأنت لا يمكن أن تقول لأنصارك وقواتك المسلحة إننا انتصرنا على العدو، بينما يستولي هذا العدو الذي تحاربه على آلاف الكيلومترات المربعة من المناطق التي كنت تسيطر عليها، لأن مثل هذا القول يجعل الناس وأولهم أنصارك يسخرون منك ويتراجعون عن مناصرتك، وأنت تفضحهم أمام الخصوم والمؤيدين.
في الحرب اليمنية قال أحد نشطاء التواصل الاجتماعي: أحصيت المسافات التي يتحدث مراسل قناة الحدث والعربية عن تحريرها من قبل "الجيش الوطني" الشرعي، فوجدت أن طولها يساوي طول المسافة بين فرضة نهم، والعاصمة الكينية نيروبي، أي أن "قوات الشرعية"، يفترض أن تكون قد حررت صنعاء ومضت باتجاه الساحل الغربي، ودخلت جيبوتي والصومال ثم اجتازتها إلى الأراضي الكينية، ووصلت العاصمة نيروبي، لكن أين هي اليوم قوات "الجيش الوطني" اليمني؟
هذا بعيدا عن مطار مأرب الدولي وغيره مما يفعله القات اليمني بالعقل السليم.
كنت ذات مرة قد أشرت إلى أن الحرب في اليمن تدار بالأكاذيب، التي يعاد إنتاجها وتكرارها حتى تتحول إلى ما يشبه المقدس الخرافي غير القابل للدحض ولا للانتقاد عند أتباع الديانات الوثنية وفي عقول المتلقين، وأشير هنا إلى الأكاذيب التالية:
الأكذوبة الأولى: أكذوبة "الجيش الوطني الشرعي"، وبعيدا عن الخلاف حول مفهوم "الجيش" ومفهوم "الوطني"، فإن الجماعات المسلحة المؤيدة للشرعية، والتي يقودها كل من علي محسن والمقدشي، ويمثلهما في أرض المعركة الفريق المحترم صغير حمود عزيز وبعض القادة الميدانيين، هذه القوات يطلق عليها "الجيش الوطني"، بينما يسمي الحوثيون قواتهم المسلحة أيضا "بالجيش الوطني"، ولكن إلى أي مدى هذان الجيشان يمثلان جيشين بالمعنى الأكاديمي للمفردة، ووطنيين بالمعنى العلمي للوطنية؟، هذا سؤال لا يمكن الحسم فيه.
وعموما فإن في الجيشين ليسا سوى بقايا من قوات الجمهورية العربية اليمنية، لكن الذين التحقوا بعد الانقلاب بالجيشين هم بمئات الآلاف ممن تم انتقاؤهم على أساس حزبي وأيديولوجي صرف، وهم بالنسبة لـ"الجيش الشرعي" أولئك الذين قال عنهم وزير الدفاع، إن 70% منهم "يلوون في الشوارع".
المشكلة ليست هنا، بل المشكلة أن هؤلاء مقيدون في كشوفات المرتبات التي تصرف بأسمائهم وبالريال السعودي، ولا يعلم أين تذهب تلك الملايين من الريالات السعودية إلا المتنفذون في قيادة تلك القوات الوهمية.
ولقد تبينت تلك الأكذوبة عندما سلمت تلك القوات فرضة نهم وكامل مديريات شرقي محافظة صنعاء، وأغلب مديريات محافظة مأرب وباقي مديريات البيضاء وكامل مديريات محافظة الجوف في مواجهة (مسرحية لم تستمر أربعة أيام) كما يتذكر الجميع.
والخلاصة أن "الجيش الوطني" أكذوبة كبيرة اخترعها النافذون في الشرعية وخاطفوها ليكذبوا به على الأشقاء وعلى الشعب اليمني للاستثمار في الميزانيات الضخمة التي تصرف لهذا المسمى "جيش وطني".
الأكذوبة الثانية: أكذوبة "المؤامرة السعودية الإماراتية لاحتلال اليمن"، فمعظم الذين يدعون أنهم يدافعون عن الشرعية يروجون بين أنصارهم، بل ومن على قنواتهم الفضائية ومواقعهم ومطبوعاتهم الإعلامية، لنظرية "المؤامرة السعودية الإماراتية لاحتلال اليمن".
وبعيدا عن الغوص في تفاصيل هذه القضية وأبعادها يمكن القول إن التمسك بهذا الموقف من دولتي التحالف العربي الواقفتين مع السلطة الشرعية برئاسة الرئيس عبد ربه منصور هادي، إنما يشوش معنويات ملايين اليمنيين الراغبين في مقاومة الجماعة الحوثية، ويجعل هؤلاء الملايين يختارون الوقوف على الحياد أو الذهاب لنصرة الجماعة الحوثية، باعتبار المعركة ضدها تصب في صالح "المحتلين الإماراتيين والسعوديين".
والأمر الغريب أن صانعي هذه الأكذوبة يواصلون طلب الدعم من الدولتين اللتين يتهمونهما بالتآمر والاحتلال، ويحملونهما أسباب الهزائم التي يصنعونها بإعلامهم ودعاياتهم وتحريضاتهم وسلوكهم السياسي والعسكري السيئ المهين لهم وللقضية التي يدعون أنهم يقاتلون من أجلها.
وللحديث بقية..
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك