منذ السبعينيات، وحتى سقوط الدولة، وحركة الإخوان المسلمين -فرع اليمن- مستحوذة على جزء كبير من الدولة، وواجهة فعلية ومكتملة عن المعارضة وشارعها العام، كانت بوجهين متناقضين يخدم كلاهما الآخر، التجمع اليمني للإصلاح في معظم فترات الجمهورية الأولى كان يمثل دولة الظل المسيطرة على مجريات الأمور وبُعدها المتواري خلف مسميات المعارضة، الإصلاح بشكله القبلي، والعسكري، والديني، والسياسي، والأمني، والمخابراتي، والإعلامي، والصحافة المقروءة، وشتى مظاهر النفعية السياسية، كانوا دولة في ظل دولة، ومعها يسيطرون على تفاصيل المجتمع، ويغذونه فكريًا بطريقتهم الملائمة والمنسجمة مع أفكارهم المستوردة، كانوا موجودين في عمق القرى البعيدة والمترامية، وعلى امتداد الطرق والروابط المدنية، وفي كل الجغرافيا الوعرة والمتصحرة، وفي معظم الأماكن اليمنية، كانوا في الشمال هم الفكر الحصري للمجتمع، وفي الجنوب شكلوا الوريث الفعلي لتركة الفكر الاشتراكي، وهناك سيطروا، وكفروا، وانتشروا، واشتروا، وباعوا، وأخوّنوا الحياة والمدارس والمساجد والمعاهد والجامعات، كانوا فكرًا يعيش بكل معاني الحرية المسموحة من سلطة الدولة التي يحكمونها ويعارضونها، ومنها كانوا يمثلون الجزء الأهم والأكثر تأثيرًا، وأمامها صنعوا وشكلوا معارضتها الرئيسية، المعارضة التي كانوا يحركون شارعها متى شاؤوا، كورقة تهديدية يقدمونها ويؤخرونها لمصلحتهم، وفي الحقيقة، كان كل شيء كروتًا نفعية لعقلية مخابراتية تدير تنظيمًا أخطر بكثير مما يظنه الآخرون..!!
جهاز الأمن العام بشكله الراديكالي كان جهازهم، وألوية الجيش اليمني بشكلها السبعيني كان جيشهم، وضباطه الكبار كانوا ضباطهم، والأمن السياسي بشكله الذي اغتال وعذب الناصريين كان أمنهم، ومؤسسة القضاء كانت مؤسستهم، والمجلس الأعلى للتعليم كان مجلسهم، ومعظم تفاصيل الظل كانت دولتهم..! كانوا هم من انتصر في جبهة الحرب الاشتراكية، وهم من انتصر في الحرب على المناطق الجنوبية، وكانوا هم من يقاتل الحـ وثيين في حروب صعدة الستة، ولو من تحت الطاولة.. هذه الحروب التي خاضوها بمسمى الدولة كانت وفق اتفاقات ومكافآت أدت لتوسع نفوذهم داخل مفاصل الدولة، فانتصارهم في جبهة الحرب على الشيوعيين أعطاهم مقاعد الكلية الحربية، ومن ثم مناصب عليا في الجيش اليمني كألوية وضباط، وانتصارهم في حرب الانفصال مكنهم من الوصول للمعهد الأعلى للقضاء ومناصب في وزارة العدل والمحاكم اليمنية..
وأمام هذا كله، كان علي عبدالله صالح يعيّ جيدًا تمكنهم ومدى سيطرتهم على الدولة ومؤسساتها، ومقابله، حاول عبر ثلاثة عقود للحيلولة دون سيطرتهم أكثر وأكثر على دولة يدعون فيها أنهم مجرد معارضين، ولأجل هذا أنشأ الأمن المركزي، كجهاز يتبع الدولة المركزية، للحيلولة دون استحواذهم على جهاز الأمن العام والقضاء، وأنشأ الأمن القومي للحيلولة دون استحواذهم على الأمن السياسي، وأقام الحرس الجمهوري للحيلولة دون سيطرتهم على ألوية الجيش اليمني، وهكذا عمل صالح منذ عام 2000 للحيلولة دون تمكنهم من الدولة فعليًا، وهو ما أظهر الخلاف بينهم، وجعله أكثر وضوحًا في عام 2006، في تلك الانتخابات التي أظهر فيها الإصلاح قوته الحقيقية أمام رئيس الدولة، يومها كانوا يمارسون الترويج الانتخابي بطريقة أكبر بكثير من رئيس الدولة، كانوا كأنهم الحاكم الفعلي للمؤسسات، في مواجهة أجهزة صالح المترنحة والمتقدمة عليهم بفعل الإعلام المرئي لا غير، بعدها تلاحقت الأمور والشكوك والمخاوف والأحداث بينهما، ومعها لم يغفر الإصلاح بأشكاله المتنوعة، القبلية، والعسكرية، والدينية، والسياسية، والمخابراتية، للرئيس صالح ممارساته تجاههم، الممارسات التي حالت بينهم وبين سلطتهم العميقة في عمق الدولة، وهنا بدأت حرب صعدة، لتكون بمجريات مختلفة في تفاصيلها عن حرب الجبهة وحرب الانفصال.. في فترة الحروب الستة بصعدة، كان الإصلاح يراوغ صالح، وكان صالح يراوغ الإصلاح ويحاول انهاكهم في حرب بعيدة مع نقيض مذهبي لمذهبهم السني، هذا الخلاف والتعقيد بينهما جر الدولة بشكلها الإصلاحي، وشكلها الصالحي لصراع بارد وشديد، أفرز الكثير من الشقوق والهشاشة في عمق الدولة مما أحدث إرادة المواجهة، لتحدث المفاجأة القاصمة لظهر البعير المترنح والمتمثل بالنظام العام للدولة، المفاجأة غير المتوقعة من الطرفين..!
في ذروة الصراع البارد بين النظامين المسيطرين، جاء القرار الدولي لتنظيم الإخوان المسلمين الإقليمي، معلنًا الثورات العربية والربيع العربي، ومعه لم يراع التجمع اليمني للإصلاح نفوذه داخل الدولة اليمنية، واعتقد لوهلة عابرة أنها فرصته الذهبية للانقضاض على نظام صالح المهدد لوجودهم، وهنا أعلن الإخوان المسلمون، فرع اليمن، ثورتهم على نظام الرئيس علي عبدالله صالح، واستخدموا كل قوتهم لإسقاطه والسيطرة عليه، كانوا مجرد تابعين لقرار دولي بعيد كليًا عن معطيات الشأن اليمني المعقد، ومجرد مفتونين بما حدث في تونس ومصر وسوريا، أغرتهم انتصاراتهم هناك، وتحت تأثير النشوة والافتتان أعلنوا الثورة والجهاد على الدولة التي كانوا لا يزالون يحكمونها ويعارضونها بمطلق الحرية والانتشار، كان هذا القرار أسوأ قرار اتبعوه وساروا خلفه وخلف تخيلاته وتوقعاته، وبالفعل تحققت أمنياتهم، وذهبوا يحكمون الدولة، لكنهم لم يكونوا على قدر عالٍ من مسئولية الدولة التي هيكلوها، وأنهكوها، وأسقطوها في أول هزة يتعرضون لها، ومن يومها وحتى اليوم، سقط كل شيء وذهبت الدولة، وذهب الإخوان المسلمون لمزبلة الأطماع والتبعية، ولحقهم المتأخونون خلفهم، في كل الأقطار العربية، وها نحن ذا نجني عاقبة النشوة والافتتان والانقضاض على الدولة بلا عقلانية أو مراعاة للمعطيات والتعقيدات..
وهنا سؤال أخير ومهم:
هل يتمنى الإصلاحيون اليوم حذاء الدولة التي كانوا يحكمونها..؟!