محمد عبدالله محمد

محمد عبدالله محمد

ھل كان صالح "زیدیاً" في تحالفه مع الحوثیین؟

Saturday 14 August 2021 الساعة 03:34 pm

"عریضة نقاش مع مزاعم باحث فرنسي"

من سوء الحظ أن المصادر الیمنیة، التي یعتمد علیھا بعض الباحثین والمستشرقین، مولعة بإنتاج تفسیرات متحیزة ذات طابع ھویاتي "لا تاریخي".

 فھذه المصادر، مثلاً، لا تكّف عن استدعاء خلفیة مذھبیة "زیدیة" ُمفترضة لكي تؤسس علیھا نظرتھا إلى ذلك التحالف السیاسي المؤقت الذي نشأ بین الرئیس الیمني الراحل علي عبدالله صالح، بعد خروجه من السلطة، وجماعة الحوثي. 

فھل كان صالح "زیدیاً" في تحالفه مع الحوثیین عام 2016، التحالف الذي انتھى بمقتله على أیدیھم؟ وبأي معنى كانت "زیدیته"؟

 نقرأ لدى الباحث الفرنسي المھتم بالیمن لوران بونفوا، خلاصة تاریخیة تقول في البدایة إن اھتمام الرئیس عبدربه منصور ھادي عندما تولى السلطة في 2012، انصب على "إعادة توزیع المراكز والموارد المؤسساتیة والعسكریة والسیاسیة"، الأمر الذي شكل "عاملاً مساعداً للجھات السیاسیة المھمشة في الجنوب وبطریقة عرضیة أیضاً الجھات السنیة". ونتیجةً لذلك، فإن من وصفھا بونفوا بـ"النخب الشمالیة، المعروفة مناطقیاً وتاریخیاً بأنھا زیدیة، مع أنھا لا تنتسب بالضرورة إلى ھذه الھویة والتي كانت تحظى بشكل كبیر برعایة "النظام القدیم"، قد شعرت "بأن ھذه العملیة برمتھا كانت تجري على حساب مصالحھا".

 ویضیف بأن ھذا المنطق یفسر جزئیاً "التحالف غیر الطبیعي بین فئتین تقاتلتا عقدا من الزمان، وھم الحوثیون وشبكات الرئیس السابق صالح المنتمیة في أغلبھا إلى الشمال الزیدي".

ثم نجد بونفوا یقول بحمق واضح: "أما صالح فقد استطاع من خلال التمجید المبطن لأصوله الزیدیة الانتقام من الثوار، ومن حزب الإصلاح".

 لوران بونفوا، "إعادة تشكیل الھویات في ظل الحرب الدائرة في الیمن: المشھد الإسلامي السني المعاصر"، مقال مترجم في مجلة "إضافات" الصادرة في صیف 2017. 

یا لھا من أخطاء جسیمة وقع فیھا بونفوا! 

لقد تحدث عن نخب شمالیة زیدیة "تاریخیا ومناطقیا". وإن كنا نعرف معنى أن یقال بأن فلانا "زیدی"، بالمفھوم المناطقي الجغرافي، وھو مفھوم لا نقره ولا نستسیغ العمل به، لأنه من البدیھي أن المذاھب والأدیان حقائق تاریخیة مكتسبة ومتغیرة، وھي بطبیعتھا عابرة لحدود المكان، فإننا لا نعرف تماماً ما الذي یقصده بونفوا بالزیدي "تاریخیاً"؟

 كیف تكون زیديا "تاریخیاً"؟ إلا إذا كان بونفوا یتصور أن "الزیدیة الجغرافیة" ھي ذاتھا "زیدیة تاریخیة". وبالتالي، فھو یمیّز ھذه الزیدیة عن زیدیة أخرى ھي الزیدیة الدینیة المذھبیة. لكن بونفوا للأسف لم یُظھر الحرص على إقامة ھذا التمییز الحاسم والضروري.

 ولكي یقلل من جسامة الخطأ، أضاف بونفوا مستدركا: "مع أنھا (أي ھذه النخب الشمالیة) لا تنتسب بالضرورة إلى ھذه الھویة". أي ھویة؟ لا بد أنه یقصد "الھویة الزیدیة". فكیف تكون زیديا "مناطقیا وتاریخیاً"، ثم لا تنتسب في الوقت نفسه إلى ھذه الھویة؟! ھل ھناك خلل في الترجمة؟ لا ندري. 

الخطأ الثاني ھو تلمیحه المریع إلى أن ھذه "الھویة الزیدیة" كانت تحظى برعایة "النظام القدیم"، فھل یقصد نظام الرئیس صالح؟ أم النظام الجمھوري عموماً؟ أم نظام الإمامة الزیدیة؟ بونفوا یصمت، وینتقل دون اكتراث. لو كان ھذا الباحث یقصد نظام الإمامة الزیدیة، لما اعترضنا. أما إن كان یقصد نظام صالح، فیكفیه أن یعرف أنّ الحركة الحوثیة عندما تأسست في مواجھة حكم صالح، كانت متسلحة بخطاب مظلومیة زیدیة مزعومة. 

طبعاً لا مانع أن تكون كلمة "زیدیة" ھنا مشحونة بكل المعاني التي قد تخطر على بال بونفوا. فلیس ھناك ما یوجب الحرج عند ربط الحوثیین بالزیدیة. وعندما یتعلق الأمر بالحركة الحوثیة، فمن الممكن الحدیث عن زیدیة مناطقیة (بغض النظر عما یمكن أن یعنیه المرء بھذه التسمیة)، وزیدیة تاریخیة (بمعنى لھا عمق في التاریخ كتجربة والتاریخ كسرد عن التجربة)، وزیدیة مذھبیة دینیة (تعالیم وممارسات وشعائر وقواعد)، وزیدیة سیاسیة (الإمامة والولایة)، وزیدیة "عرقیّة" ھاشمیة َعلَویة. 

وسوف نتنازل الآن عن التدقیق في نوع زیدیة الحوثیین، وخصوصیتھا مقارنة بالزیدیة القدیمة السائدة قبل العام 1962. لعل ما یقصده بونفوا بكلامه ھو أن نظام صالح كان محابیا وراعیا بشكل خاص لأبناء ما تسّمى "المنطقة الزیدیة".

لكن حتى ھذا القصد یمكن ببساطة دحضه أو مساءلته على الأقل. لن نفعل ذلك الآن. ومع ذلك، حتى لو ثبت أن صالح كان یحابي أبناء منطقة "الیمن الأعلى"، فھذا لا یجعل منه "زیدیاً" بالمفھوم الذي جاء الحوثیون لإحیائه. وھذا ما نھتم به الآن. 

الخطأ الثالث الفادح لبونفوا ھو استناده إلى ھذا المنطق لتفسیر تحالف صالح والحوثیین. مع أنه قال إن ھذا المنطق یفسر "جزئیاً" فقط ذلك التحالف.

 قد نقبل ھذا التحدید بحذر شدید، فمن الصعب إنكار أن شیئا من الحساسیة المناطقیة قد أثیرت لدى مجتمع شمال الشمال، جراء سیاسة ونھج الرئیس ھادي بین 2012 و2014، وخصوصاً لدى أنصار صالح.

 من الجائز أن بعض قرارات ھادي، في الجانبین العسكري والمدني، كانت توحي -عن حق أو باطل- كما لو أنھا مدفوعة بموقف غیر ودي من الجغرافیا التي یقع فیھا مركز الدولة الیمنیة وعاصمتھا، الجغرافیا التي وصمْت في خطابات ذلك الحین باعتبارھا "المركز المقدس" الواجب تفكیكه وتنحیته إلى الأبد.

مع العلم أن أكثریة المصوتین لھادي عند اختیاره رئیساً للیمن بموجب "المبادرة الخلیجیة" عام 2012، كانت تنتمي إلى ھذه المناطق في شمال الشمال، خلافا للمحافظات الجنوبیة التي شھدت مشاركة ضعیفة جداً في تلك العملیة، فلم تشكل جنوبیة ھادي أي حافز للإقبال على صنادیق التصویت في الجنوب، بل تعرضت بعض الصنادیق ھناك للإحراق والاعتداء من قبل متشددین انفصالیین.

 المؤَّكد أن الحساسیة الأقوى التي نجمت عن تصرفات وقرارات الرئیس ھادي وھو في صنعاء، لم تكن حساسیة مذھبیة دینیة. ولا یمكن بأي حال المماثلة بین الحساسیة لدى أنصار صالح وبین تلك الحساسیة المحركة لجماعة الحوثي، التي ھي حساسیة مذھبیة زیدیة قدیمة تتحین الفرصة في كل اتجاه، قَبل رئاسة ھادي وقرارات ھادي بسنوات طویلة.

 الخطأ الرابع لبونفوا ھو إشارته إلى أن صالح كان "یمجد" بشكل مبطن "أصوله الزیدیة". ولأن بونفوا لم یجد ما یدلل به على ھذا الزعم الخطیر، فقد تركه ھكذا بدون إثبات، شاھداً على تحیز مسبق غامض الدوافع. والحق أن صالح لم یصِّرح مطلقا بما یفید أنه فخور بأصله "الزیدي"، كما زعم بونفوا.

 وفي آخر سنوات حیاته، كان صالح یفترض لنفسه أصلاً حمیَریّاً یمنیاً سابقاً للإسلام، وبالأحرى سابقاً للمذھب الزیدي، وكان یباھي به رداً على قدح خصومه في نَسبه ولقب عائلة "عفاش"، اللقب الذي تم استخدامه في دعایة أحداث 2011 بقصد الإساءة. بل إن بونفوا نفسه في مواضع سابقة من مقالته، كان قد ذكر كیف أن صالح اختار الأذان في مسجده الكبیر "الذي بناه تذكارا لحكمه، على المذاھب السنیة! فضلاً عن أن صالح طوال فترة حكمه، كان یظھر في التلفزیون وھو یصلي وفقاً للمذاھب السنیة، بدلاً من المذھب الزیدي. فمتى وكیف كان صالح زیدیاً؟ وعلى أي أساس نزعم أن زیدیته تفسر تحالفه مع الحوثیین؟

الحوثیون لم یروا في صالح یوماً زیدیاً جدیراً بھذا الوصف. لكن من المحتمل أن یكون قد تشَّكل، بین الأعوام 2015 و2017، تیار وسیط في مناطق صنعاء وشمال الشمال، یجمع بین الولاء لصالح والتفاعل الإیجابي مع خطاب الحوثیین وأدبیاتھم المذھبیة. وبعد مقتل صالح، انتھى أمر الأغلبیة في ھذا التیار بالانصھار تدریجیاً في بوتقة الحوثیین. 

والآن لن نكون من السذاجة بحیث نسأل ھذا السؤال: لماذا لم تشفع لصالح "زیدیته" عندما ھجم علیه الحوثیون علناً تحت رایة "الولایة الإلھیة الزیدیة" إلى منزله وسط صنعاء، في 4 دیسمبر 2017، وأردوه قتیلاً وأخفوا جثته حتى الآن؟ 

ما سبق لیس دفاعاً عن صالح. غایة ما ننشده ھو كشف خواء التفسیرات والسردیات الطائفیة والمناطقیة التي تستبطنھا الیوم قوى الفوضى والحرب والظلام في أنحاء الیمن، حتى لو جاءت ھذه التفسیرات والسردیات بأقلام مستشرقین وباحثین أجانب لا بد أنھم یستقون ُجل أفكارھم من یمنیین مصابین بلوثة التحیزات المناطقیة أو المذھبیة اللا واعیة. 

علماً أن موقفي من نصوص المستشرقین لا یلتزم بالتحذیر الصارم الذي تبناه المفكر والناقد الفلسطیني اللامع إدوارد سعید. 

بالنسبة لي، لا استنكف عن الاستفادة من رؤى واستبصارات ھؤلاء الباحثین، مستعیرا بعض الأحكام الاستشراقیة عن المشھد المحلي كما تلتقطه عین الغریب من مسافة حضاریة مناسبة. لكني أحتفظ بحساسیتي النقدیة تجاه مقالات المستشرقین. وأستطیع أن أرفض إلى حد، وأن أقبل إلى حد، لكن لیس رفضاً ولا قبولاً غیر مشروطین.