محمد عبدالله محمد

محمد عبدالله محمد

التشيُّع الإسماعيلي في اليمن والتشيُّع الزيدي.. أهم الفوارق

Friday 10 September 2021 الساعة 03:20 pm

قبل كل شيء، علينا التذكير بحقيقة أن الإسماعيلية فرقة شيعية - إذا كان التشيع هو إظهار الولاء القلبي والسياسي والتاريخي لمظلومية مزعومة لحقت بـ علي بن أبي طالب ثم استمرَّت في ذريته من ولديه الحسن والحسين. 

غير أن الإسماعيلية تتناسخ في التاريخ بعدد هائل من التسميات. 

وأما اسمها المعتمَد هنا فهو مشتق من اسم اسماعيل بن الإمام جعفر الصادق. وقد افترقتْ مع الاثني عشرية في القول بأن إسماعيل -وليس موسى الكاظم- هو الإمام الشرعي بناءً على وصية أبيه جعفر الصادق. 

ويورد برنارد لويس ما تقوله المصادر الاثني عشرية في هذا الخصوص. إذ لا تنكر هذه المصادر وصية جعفر الصادق لإسماعيل، لكنها من جهة تؤكد وفاة هذا الأخير في حياة أبيه، ومن جهة أخرى تقول إن جعفر الصادق نزع عن اسماعيل حق الإمامة بسبب أخلاقه الذميمة، وبالتالي، فالوصية من وجهة نظرهم ذهبت إلى الابن الآخر لجعفر وهو موسى الكاظم الذي أصبح هو الإمام السابع في سلسلة الأئمة الاثني عشر. (برنارد لويس، أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية، ص50).

ومن بين الفرق الشيعية الثلاث، الاسماعيلية هي الأكثر "باطنية". والباطنية في أحد وجوهها هي الميل إلى الاعتقاد بأن الحقائق والمعاني في النصوص الدينية تنقسم إلى "ظاهرٍ" لعامة الناس، و"باطن" لا ينفذ إلى كنهه إلا صفوة الناس وخاصتهم. وهي تختلف عن الجعفرية بكونها تؤمن -مثل الزيدية- بإمامة متواصلة، لكن في ذرية إسماعيل وابنه محمد بن اسماعيل الذي ربما رفعه أوائل الإسماعيليين إلى مرتبة "إمام الغيبة" السابع والأخير في سلسلة الأئمة. 

ومع ذلك، لا ينبغي لكلمة "ذرّية" أن تضللنا. فالإسماعيلية، بما هي حركة باطنية تأويلية، تعتبر العلاقة بين الأب والابن أقل أهمية وحقيقة من علاقة المعلِّم بتلميذه. فهي إذاً تقيم اعتباراً أكبر للنَّسَب الروحي والمعنوي على حساب النَّسب الطبيعي البيولوجي. 

وإضافة إلى أن هذه الخاصية توضح فرقاً اسماعيلياً مهماً مع المفهوم الزيدي البيولوجي عن النَّسَب، فقد عززتْ الشك لدى عدد من المؤرخين والمستشرقين في طبيعة النسب العلوي للخلفاء الفاطميين أو حتى بقية الأئمة الاسماعيليين المستورين، وترجيح الاحتمال بأنهم كانوا فقط -أو غالباً- علويين بالتفويض أو علويين روحانياً وليس بالدم!

وإذ ينادي الداعي العلوي الزيدي في اليمن بأنه "ابن النبي"، فهو يريد بذلك أنه امتداد طبيعي وبيولوجي من نسل فاطمة بنت النبي محمد، وليست البنوة الروحانية والرمزية. فهذا الداعي في العادة يكون متلهفا إلى حيازة مجد وتقدير مباشرين عاجلين مقابل دعوى الانتساب بالدم إلى النبي محمد، في بيئة اجتماعية يمنية قليلة الانشغال بالأفكار المعقدة وعلوم الباطن. 

لا بد أن الفكرة الإسماعيلية عن النَّسب الروحاني أرقى وأعمق بكثير من الفكرة الزيدية الهادوية، ولذلك لم يصاحب انتشار الدعوة الإسماعيلية في اليمن أي تشكُّل بارز لمستوطنين يلتمسون الجاه والمكانة بناءً على النسب العلوي الفاطمي المزعوم.

في التفاصيل، سنجد أن بعض الفرق والأطوار الإسماعيلية مثلاً تميِّز نظرياً بين نوعين من الأئمة: الإمام المستقِر، وهذا يجب أن يكون نسبه علوياً روحياً وجسمانياً، والإمام المستودَع، وهو الذي ينتسب إلى علي روحياً فقط. 

ولا يمكن الإحاطة هنا بأفكار ومعتقدات الإسماعيلية، بتحولاتها المستمرة بمقتضى الزمان والمكان، وخصائصها المرنة التي جعلت من الجماعات المتفرعة عنها صور مصغرة تعكس في تكوينها عناصر فكرية وعرفانية متعددة المشارب. ذلك أن "الطائفة الاسماعيلية تفتقر إلى وحدة المذهب"، على حد تعبير المستشرق دانييل دو سميت، وهي "أوزاعٌ شتى من الموروثات والحركات".

ولهذا يَحْسُن بنا الآن الانتقال إلى القول بأن أول ما يميز الحركتين الإسماعيلية والزيدية في اليمن هو أن مركز نشاط الأولى لم يكن في اليمن. في حين أن الزيدية تميل إلى السماح بتعدد المراكز.

وثاني ميزة هي، وخلافاً للزيدية، أن دعاة الإسماعيلية المشهورين في تاريخ اليمن كانوا غالباً من أصل يمني، ما عدا مجموعة قليلة مثل ابن حوشب (يقال إنه قرشي من ولد عقيل بن أبي طالب) الذي كان شريكاً رئيسياً في عملية التأسيس الأولى للدعوة الاسماعيلية في اليمن مع علي بن الفضل الخنفري في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، قبل مروق هذا الأخير عن الدعوة الإسماعيلية وانخراطه في صراع مع شريكه ابن حوشب.

أي أن تمثيل حركة التشيع الاسماعيلي في اليمن كان يتم إسناده إلى دعاة يمنيين قحطانيين (حميريين أو همدانيين)، خلافاً لـ "التشيع الزيدي" الذي لم يتوقف أبداً عن الارتباط مصيرياً بطبقة عدنانية (علوية فاطمية) ذات حضور متعيَّن ومحسوس في الفضاء الاجتماعي اليمني. 

في اليمن، كان أكثر دعاة الاسماعيلية الكبار يمنيين قحطانيين، ولا سيما قحطانيين من الفرع الهمداني -مثلاً: الشاوري، الزواحي، وآل الصليحي، والداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي الهمداني، والداعي الذؤيب بن موسى الوادعي الهمداني، ثم السلاطين الحاتميين في صنعاء والزريعيين في عدن- وهؤلاء الأخيرون من ناحية النسب همدانيون.

وبحسب إفادات النسَّابة، فإن علي بن الفضل قحطاني حميري على الأرجح. وكان هذا الرجل قد بدأ حياته بالتشيع على المذهب الإثني عشري ثم انتقل إلى الدعوة الاسماعيلية في العراق، وقد سطع اسمه بعد ابتعاثه لنشر هذه الدعوة في جنوب اليمن، وذلك قبل انفصاله اللاحق عنها في ظروف غامضة. 

وشرَعَ بن الفضل في تأسيس مملكة يمنية امتدت إلى صنعاء لفترة وجيزة، لكنه اغتيل بالسم قبل اكتمال حلمه. (دخل علي بن الفضل صنعاء 296 هجرية، واغتيل عام 303 هجرية).

وعن حركة علي بن الفضل، نقرأ للباحث المتخصص في تاريخ الطائفة الإسماعيلية حسين الهمداني، ما يلي: "فلما تمكن نفوذ ابن الفضل وأضحى سيد اليمن أعرب عما يجيش في نفسه من رغبة ملحة في تكوين دولة يمنية مستقلة عن العباسيين والفاطميين كما فعل أبو سعيد الجنابي الذي كون دولة مستقلة في البحرين (والجنابي نسبة إلى جنابة وهي بلدة على الخليج-العربي حالياً)". 

وكتب ابن الفضل إلى أبي القاسم منصور اليمن (ابن حوشب) قائلاً: "إن لي بأبي سعد الجنابي أسوة، وأنت إن لم تنزل إلي وتدخل في طاعتي، نابذتك الحرب"، (حسين الهمداني، الصليحيون في اليمن، ص45).

بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي، كان الصليحيون الهمدانيون ملوكاً على اليمن. وعلى الرغم من علاقتهم المذهبية والسياسية الوثيقة بالدولة الفاطمية الإسماعيلية في مصر، إلا أن تشيُّع الصليحيين حافظ على طابع شبه مستقل يتجلى من خلال العزوف عن مشاركة الفاطميين احتفالاتهم ومناسباتهم الدينية، مثل "ميلاد فاطمة الزهراء" وذكرى "عاشوراء" و"الغدير"، ولعل هذا العزوف يرجع، وفقاً لـ البردوني، "إلى النزاع بين أئمة صعدة العلويين وبين الملوك الصليحيين الذين يختلف تشيعهم الإسماعيلي عن التشيع الجارودي (يقصد فرع من التشيع الزيدي) الذي كان يلتزمه الأئمة"، (البردوني، "الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل"، 188).

بيد أن هذا التفسير الذي أطلقه البردوني لا يخلو من التسرع، بل هو تفسير ركيك قائم على حدس الشاعر، لأن عدم احتفال الصليحيين بعاشوراء والغدير ومولد فاطمة، هو من الأهمية بحيث يقتضي فهماً موسعاً ومركَّباً.

وبالمقارنة مع التشيع الإسماعيلي، كان القادة والدعاة المشهورون في تاريخ حركة التشيع الزيدي في اليمن، من ناحية النسب، علويين فاطميين، فهؤلاء كانوا دائماً هم القائمون على رسالة مفادها أن محبة آل البيت والتحيز التاريخي والوجداني لعلي بن أبي طالب، وولديه الحسن والحسين، لا يتحققان فعلياً إلا من خلال محبة هؤلاء العلويين أنفسهم والتحيز القلبي والسياسي لهم. 

في اليمن، كانت صعدة هي مهد الدعوة الزيدية، وكان الأئمة العلويون الزيديون يتخذون من صنعاء أو مناطق أخرى في الهضبة العليا مراكز لدعوتهم وحكمهم، أي أنهم لم يكونوا ينشطون سياسياً لصالح مركز للزيدية يقع خارج اليمن، باستثناء مرتين أو ثلاث كان فيها زيدية اليمن تابعين لإمام علوي مقرَّه في طبرستان شمال إيران. 

ولقد تكوَّنتْ حول/ ومع النشاط الزيدي في اليمن شبكة واسعة من المستوطنين الفاطميين العلويين حيث كانوا يتولون إلى جانب التبشير بتعاليم المذهب الزيدي، قيادة التنظيم السياسي والعسكري لشبه الدولة الزيدية ممثلة في الإمامة. 

بينما ظل المجتمع اليمني في الشمال الأعلى شريكاً من الدرجة الثانية في هذه العملية.

هل هذه الفوارق جديرة بأن تفسِّر انحسار أو تلاشي الحركة الإسماعيلية في اليمن في مقابل استمرارية الحركة الزيدية حية ونشطة أو على أهبة النشاط؟

لا نستطيع أن نكون على يقين من الرد على سؤال بهذا المستوى.

المؤكد أن مصير الإسماعيلية في اليمن كان جزءاً فقط من مصيرها في العالَم الإسلامي.