الصور والأخبار والمبادرات حول اليمن، كلها تجعل المشهد ملتبسًا.
في مأرب يُحكم الحوثي الطوق على المدينة، بعد أن أسقط المديريات، والتف من ورائها في شبوة. ويعرض التلفزيون المقاتلين القبليين من أبناء الجوبة، يدلون بأقوال تعبر عن الندم، وتشكر زعيم الحوثيين على منحهم الصفح، وتؤكد الاستعداد للقتال معه وتحت قيادته داخل البلاد وخارج الحدود. إنها صورة رجال لا يستحقون اللوم، فقد قاتلوا ببسالة نادرة وصمود طويل، إلى أن نفدت ذخائرهم ومؤونتهم، فلم يجدوا سبيلًا غير التفاوض والتسليم بأقل الخسائر المعنوية.
وعلى حين امتنعت قوات الجيش الحكومي عن إمدادهم بالسلاح والذخائر واللوازم الأخرى، جاءت الصورة الثانية لتضع علامة استفهام كبيرة فوق رمال الصحراء، فقد استولى الحوثي على عتاد ضخم من أحدث الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والعربات الجديدة والأجهزة الحديثة.
هكذا ظفر الحوثيون بأسلحة جرارة في طريقهم من نهم إلى مأرب، وفي كل الطرق التي شقوها في الجوف والبيضاء وغيرهما. وهم يخرجون ألسنتهم بالسخرية من جيش الشرعية عندما يعرضون غنائمهم من العتاد، ويعلنون بصراحة أنهم يحاربون عدوهم بسلاحه. ذلك من غير أن يكشفوا أنهم يشترون السلاح أيضًا من العدو نفسه.
لكن لوزير الدفاع رأيًا مختلفًا.
ففي مقابلة حديثة أجرتها معه الإعلامية رحمة حجيرة، في قناة “اليمن اليوم”، برر هزائم جيشه بالفارق في نوعية وكفاءة السلاح.
قال عن الحوثي: “لديه أسلحة حديثة وعربات حديثة”. وعن نفسه: “ورثنا سلاحًا متهالكًا”.
ومع هذا فقد حرص على أن يزرع الطمأنينة في نفوس الناس: “أطمئنكم بأننا صامدون وسينهزم العدو”. كررها كثيرًا، ومعها العبارة الممجوجة المريرة: “الحرب سجال”.
اللازمة نفسها التي يكررها متحدثوه العسكريون عقب كل هزيمة، فهم قد قتلوا من أفراد العدو وضباطه، ودمروا عرباته ودباباته. لقد قتلوا وحققوا وأنجزوا رغم تفوق العدو بالسلاح والعتاد!
قال وزير الدفاع إن إيران مصدر تسليح الحوثيين، وأنه يصل إليهم مهربًا عبر البحر، كما لو أن المشاهدين لا يعرفون أن الحوثي تحت الحصار من البحر والجو على مدى 7 سنوات. وأما عن أسلحته المتهالكة، فإن الناس أجمعين يعلمون أن مخازن أسلحة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مفتوحة لجيش الشرعية، والطريق إليها سالكة من البحر ومن البر والجو. تمامًا مثلما أن خزائنهم مفتوحة على آخرها.
قال الوزير إن الشرعية لا تتلقى من دول التحالف سوى الدعم اللوجستي، في الوقت الذي يقاتل الإيرانيون واللبنانيون مع الحوثيين!
وتسأله الصحفية: هل أسرتم منهم أحدًا؟
لا. لكننا قتلنا منهم كثيرين.
وتحاصره بالسؤال: هل لديكم جثامين؟
لا. إنهم يحملونهم ويخفونهم.
وعن منظومة الدفاع الجوي، تحديدًا عن الباتريوت، يجيب بأن الباتريوت تملكه الدول الأخرى. وليس من أحد من الناس يجهل أن الباتريوت مثلما “إس 300″ و”إس 400” وغيرها من أسلحة الدفاع الجوي، لا تحتكرها الدول العظمى.
ولا أتابع وأزيد، فإن الكثيرين شاهدوا المقابلة، لكن هذه وحدها تكفي لمعرفة شخصية القائد العام للجيش. وأما الوزير فقد رأيناه يطالب الحكومة بصرف مرتبات الجنود. يطالبها في التلفزيون، وهو عضو فيها، مع أن الطبيعي أن وزارته لديها اعتمادات في البنك المركزي ضمن الموازنة العامة للدولة، وإذا ما وجد نقص أو حاجة لاعتمادات إضافية، فإن الوزير لا يطالب في التلفزيون، وإنما في اجتماع للحكومة، فإذا تعذر، ففي مخاطبة لرئيس الوزراء.
إنه بهذا التصريح في التلفزيون، يتهم -ربما من غير قصد- الحكومة ورئيسها ووزير ماليتها، بتعمد تجويع الجنود، والتسبب في إفشاله بالمعارك.
الحق أن اسم الوزير لم يكن معروفًا قبل أن يتولى رئاسة الأركان. والمذيعة قدمته، وذكرت رصيده العسكري، وهو المشاركة في حرب صعدة السادسة الفاشلة، وفي الحرب العراقية الإيرانية. واليمن قدمت بالفعل دعمًا رمزيًا للعراق في حربه مع إيران، وأرسلت لواء مشاة بقيادة العميد ناجي المضرحي، رحمه الله، وهو ضابط ممتاز لم يتح له القتال في الحرب، فقد وضعهم العراقيون في المؤخرة ضمن فرق الإمداد. ولذلك لم يستفيدوا، ولم يتعلموا.
بهذه العقلية، وكثير أمثالها، تدار شؤون البلاد في أصعب وأخطر ظروفها. والمؤكد أن الشأن العسكري هو أهمها على الإطلاق، فإن الذين تولوه مسؤولون عن الفشل والدمار، وعن الأرواح والدماء، وعن دموع وقهر الأرامل والثكالى واليتامى. وهؤلاء القادة أنفسهم شريكون في المسؤولية عن صورة أخرى رأينها في الأيام الماضية، وهي إخلاء مواقع لا تدور فيها الحرب، والانتقال منها إلى مواقع غيرها.
هذه المرة لم يطلق عليها مسمى الانسحاب التكتيكي، على غرار ما اعتاد جيش الشرعية الواهن.
اعتبر المتحدث باسم تحالف دعم الشرعية، ما جرى في عدن وفي الساحل الغربي، إعادة تموضع.
قال إن الجيوش في العالم كله تقوم بمثل هذا. وفي حدود ما أعرف في الشؤون العسكرية، فإن إعادة التموضع تتم أثناء الحرب، وإذا ما اقتضت العمليات ذلك، فإنها لا تكون انسحابًا إلى الخلف إلا في حالة نصب كمين للعدو.
والظاهر أن المملكة العربية السعودية اقتنعت أنها خسرت الحرب، واتخذت قرارًا نهائيًا بالانسحاب كلية من اليمن، لكنها مترددة في الاعتراف الصريح دفعة واحدة. إن لديها عقدة كبرياء أو مأزق كبرياء يصعب تجاوزه أو مداراته. غير أني لا أظن أن الاعتراف بالتقسيط يحل العقدة.
ومادامت السعودية، قائد التحالف، قررت، فإن الإمارات بالنتيجة لا تملك حق مواصلة الحرب. وكانت قوات الساحل محسوبة على الإمارات بالتكوين والتسليح والتدريب والتمويل. وهي حققت انتصارات سريعة وباهرة في 2018، ومسكت بتلابيب الحوثي في مداخل الحديدة، وكادت تخنقه عندما قاد المبعوث الأممي والدول الكبرى وراءه الحكومة الشرعية إلى ستوكهولم، ووقعوها صكًا بالتراجع.
ولقد بقيت القوات هناك ثلاث سنوات في وضع غريب، ليست في الثكنات، ولا على خط النار. لقد ظلت شاردة في الطرق والشوارع والأزقة والصحارى المفتوحة، وذلك وضع لا تتحمله الجيوش، ولا يقره العلم العسكري.
كان الوضع شاذًا ومرهقًا، حتى إذا قررت السعودية وسكتت الشرعية، فإن الإمارات لا تملك قرار استمرار الحرب، ولا ترضى بترك عتادها للحوثي، ولا تتخلى عن الرجال الذين قاتلوا بذلك السلاح، وانتصروا.
إن هذه الصورة الرابعة تكذب أية صورة خرجت بعدها من أروقة الدبلوماسية. إن تلك التسريبات عن مشاريع للتسوية تخطتها عجلة الحوادث.
وفي المشروع الذائع إقامة كونفدرالية تحت اسم الفيدرالية، وهي مغالطة لا داعي لها ولا مبرر، ذلك أن الفيدرالية اتحاد بين دول تتمتع كلها بالشخصية الاعتبارية. والمعنى الواضع هو تقسيم البلاد إلى دول صغيرة.
في المشروع أيضًا أن الجمهورية العربية اليمنية السابقة سوف توزع قسمة بين الحوثي والحكومة الشرعية، لكن عجلة الحوادث -كما قلت- لم تعد تسمح.
وكنت كتبت قبل أسابيعَ، بعنوان “ما بعد مأرب”، وقلت إنه سيتجه إلى الساحل، ثم جاء قرار السعودية بالانسحاب، فسلمه الساحل دون حرب، وقبل أن تسقط مأرب في يده.
والآن بعد مأرب لم تعد أمامه غير أماكن متناثرة في تعز، لكن هل يواصل بعدها ويزحف إلى الجنوب؟
عندي أنه سينتظر صدامًا بين الانتقالي وبقايا قوات الإصلاح المحسوبة على الشرعية في شبوة ومحيطها، ثم يتصرف بعد ذلك. والظن الغالب أنه يطمع باليمن من أطرافها إلى أطرافها. ذلك إذا استطاع أن يبتلع اللقمة كلها. وأما في الحدود الدنيا، فإنه يقبل بالجمهورية العربية اليمنية السابقة، أعني المملكة المتوكلية القديمة.
السؤال إذن، هل تربح إيران المستقبل في اليمن، أم هي بريطانيا؟
عدا ذلك، هل تتقاسمان جائزة الحرب؟
المشهد لم يزل ملتبسًا، غير أنه في الأحوال كلها، فإن الشعب اليمني هو الخاسر الأكبر.
*نقلا عن المشاهد نت