تحليل: تعطيل إمدادات الحوثيين خطوة حاسمة لحماية الملاحة في البحر الأحمر

السياسية - منذ ساعة و 33 دقيقة
واشنطن، نيوزيمن، خاص:

وسط صمت صاروخي نسبي في البحر الأحمر خلال الأسابيع الأخيرة، إلا أنّ الصورة الأمنية في الممرات البحرية الاستراتيجية لا توحي بتهدئة دائمة، بل بمرحلة "كمون مؤقت" في هجمات الحوثيين البحرية، كما يصفها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في أحدث تحليلاته.

المعهد يحذّر من قراءة خاطئة لهذا الهدوء، مؤكداً أن التهديد البحري الحوثي لا يزال قائماً ومتصاعداً، وأن أي توقف في الهجمات ليس إلا نتيجة ظروف سياسية مؤقتة، وليس تحوّلاً استراتيجياً في سلوك الجماعة.

ويكشف التحليل أن البحر الأحمر وطرق التجارة العالمية لا تزال رهينة قرار ميليشيا مرتبطة بإيران، تمتلك القدرة والنية لاستئناف استهداف السفن في أي لحظة، خصوصاً مع تلويح قيادات حوثية مؤخراً باستئناف الضربات البحرية إذا تصاعدت العمليات العسكرية في غزة.

كما يؤكد أن المخاطر البحرية لن تتراجع فعلياً ما لم تتحرك الولايات المتحدة وحلفاؤها لمهاجمة الشبكات اللوجستية وشبكات المشتريات الحوثية التي تزود الجماعة بالطائرات المسيّرة والصواريخ والوقود والقدرات التقنية.

هدوء هش

رغم غياب الهجمات الحوثية على السفن منذ أواخر سبتمبر الماضي، إلا أنّ هذا الهدوء لا يعكس بأي حال من الأحوال تراجعاً في مستوى التهديد، وفق تحليل معهد واشنطن. فالأجواء المحيطة بالملاحة الدولية ما تزال مشحونة بالتوتر، وتعمل السفن التجارية تحت مظلة احترازية مشددة، فيما لم تُخفَّض شركات التأمين من مستوى المخاطر المفروضة على السفن العابرة للبحر الأحمر. ويظهر ذلك بوضوح في استمرار السفن الأميركية والبريطانية والأوروبية في تجنّب العبور من باب المندب، مفضّلة الإبحار عبر رأس الرجاء الصالح رغم ارتفاع التكلفة وزمن الرحلات.

ويُعزّز هذا الشعور بالقلق أن التوقف عن الهجمات لم يأتِ نتيجة تفاهمات سياسية أو ضمانات أمنية، بل بسبب عوامل ظرفية مرتبطة بتقلبات الصراع الإقليمي. إذ يوضح المعهد أن الحوثيين أعلنوا بصراحة استعدادهم لاستئناف "العمليات البحرية" فوراً إذا دخلت غزة في مرحلة تصعيد جديدة، ما يعكس ترابط القرار العسكري للجماعة مع مسارات الأزمة الإقليمية وليس مع أي التزامات أو ضغوط دولية.

ويحذّر التحليل من أن هذه الإشارات ليست مجرد تصريحات دعائية، بل جزء من استراتيجية ابتزاز سياسي تستخدمها الجماعة لفرض نفسها لاعباً رئيسياً في معادلات الأمن الإقليمي. فكلما تصاعد التوتر في غزة أو لبنان، يُعاد تنشيط تهديدات البحر الأحمر، ما يجعل الملاحة الدولية رهينة لحسابات تتجاوز اليمن وتمتد إلى صراع النفوذ الإيراني – الإسرائيلي، وتوازنات القوى في الشرق الأوسط.

كما يرى خبراء المعهد أن استمرار الصمت الحوثي الحالي قد يكون غطاءً لمرحلة إعادة تنظيم أو إعادة تسليح، خاصة مع التقارير التي تتحدث عن تحسين شبكات الاستيراد والتمويل، وإعادة تأهيل الموانئ التي تُستخدم في استقبال المعدات والوقود الإيراني. وبالتالي، فإنّ أي انفجار جديد في مسارح التوتر الإقليمية قد يؤدي إلى عودة مفاجئة للهجمات البحرية، وربما بوتيرة أعلى وأكثر تنوعاً من السابق.

تهديد مباشر لدول الخليج

يرى معهد واشنطن أن التهديد البحري الذي تشكّله الميليشيا الحوثية تجاوز مرحلة استهداف السفن في جنوب البحر الأحمر أو عند باب المندب، ليتمدّد نحو مناطق أكثر حساسية، وبشكل غير مسبوق، كما حدث في أغسطس الماضي عندما حاولت الجماعة استهداف ناقلة نفط مملوكة لرجل أعمال إسرائيلي على بُعد أقل من 40 ميلاً فقط من ميناء ينبع—إحدى أهم بوابات السعودية لتصدير النفط إلى الأسواق العالمية.

ويعتبر الباحثون أن هذا الهجوم لم يكن حادثاً عابراً، بل يمثل تطوراً نوعياً في حسابات الجماعة العسكرية، لأنه يوجّه رسالة مزدوجة: تهديد مباشر للبنية التحتية الحيوية للطاقة السعودية، ومحاولة لإثبات القدرة على نقل التهديد إلى قلب مناطق النفوذ الاقتصادي الخليجي.

ويحذر التحليل من أن اقتراب الهجمات من ميناء ينبع يضع المنطقة أمام سيناريو أكثر تعقيداً، إذ إن أي تعطيل للموانئ النفطية السعودية لن يضرب الأمن الخليجي فقط، بل سيهزّ الأسواق العالمية للطاقة التي تعتمد على صادرات المملكة.

كما أن توسّع مسار الهجمات بات يضغط على مشاريع التحول اللوجستي التي تستند إليها رؤية السعودية 2030، والتي تراهن على تحويل المملكة إلى مركز عالمي للنقل البحري. وتؤكد الدراسة أن استمرار هجمات الحوثيين أو اقترابها من الموانئ السعودية يمكن أن يعرقل مراحل رئيسية من هذه الرؤية ويضرب ثقة المستثمرين الدوليين.

ولمواجهة هذا التهديد، يشير التحليل إلى أن المملكة سارعت، بالتعاون مع بريطانيا، إلى إطلاق مبادرة "تعزيز الأمن البحري اليمني"، وهي خطوة تعكس مستوى الشعور السعودي بخطورة الوضع، وتكشف عن اتجاه جديد في سياسة الرياض يقوم على بناء تحالفات أمنية أوسع، وتعزيز الرقابة البحرية المشتركة، وتطوير أدوات الردع في الممرات الحيوية.

ويؤكد المعهد أن هذه المبادرة ليست مجرد إطار سياسي، بل جزء من معركة استراتيجية طويلة تهدف إلى منع تحوّل البحر الأحمر إلى منطقة نفوذ مفتوح لإيران عبر وكلائها الحوثيين.

روسيا والصين المستفيدان الأكبر 

يشير تحليل معهد واشنطن إلى أن التحولات التي أحدثتها الهجمات الحوثية في البحر الأحمر لم تقتصر على رفع تكاليف الشحن أو تغيير مسارات التجارة فحسب، بل أعادت رسم خريطة النفوذ البحري العالمي، بحيث أصبحت بعض القوى الدولية—وفي مقدمتها روسيا والصين—من أبرز المستفيدين.

ومع استمرار التهديدات، تراجع حضور السفن الأميركية والبريطانية وشركات الشحن الكبرى في جنوب البحر الأحمر بشكل ملحوظ. فشركات عالمية مثل "ميرسك"، التي تعد أحد أكبر مشغلي سفن الحاويات في العالم، باتت تفضّل الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، رغم أن هذا القرار يضاعف زمن الرحلة، وتكلفة الوقود، وأسعار النقل عالميًا. هذا الانسحاب التدريجي يعكس فقدان الثقة بقدرة المجتمع الدولي على تأمين الممرات الحيوية، ويخلق مساحة خالية تتحرك فيها أطراف أخرى دون منافسة.

وعلى النقيض تمامًا، يُظهر التتبع البحري أن السفن المرتبطة بالصين وروسيا أصبحت الأكثر نشاطًا في جنوب البحر الأحمر. ويفسّر التقرير ذلك بوجود "طمأنينة" واضحة لدى هذه السفن بأنها بعيدة عن دائرة استهداف الحوثيين، وهو ما دفعها إلى مواصلة الإبحار عبر باب المندب دون تغيير المسار، وإرسال رسائل تعريفية عبر أنظمة الملاحة تُبرز أصلها وهوية ملكيتها لتجنّب الهجمات، واستغلال انخفاض الازدحام في الممرات البحرية لتعظيم أرباحها.

ويذكر التحليل مثالاً بارزًا: سفن نقل النفط الروسي إلى الهند، والتي تحوّلت إلى أكبر المستفيدين من تراجع حركة السفن الغربية. فمعظم هذه الشحنات بات يمرّ عبر قناة السويس والبحر الأحمر دون منافسة تُذكر، ما خفّض تكاليف النقل وعزّز حضور موسكو في سوق الطاقة الآسيوية، رغم العقوبات الغربية.

هذا التباين في السلوك البحري بين الغرب والصين وروسيا، وفق التحليل، يعمّق المخاطر الجيوسياسية، لأنه يمنح موسكو وبكين نفوذاً أكبر على واحدة من أهم نقاط التجارة البحرية في العالم، ويقوّض قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على مراقبة حركة الطاقة العالمية، ويعزز قدرة الصين على استخدام طرق التجارة لصالح مبادرة "الحزام والطريق". وبذلك، لم يعد التهديد الحوثي مجرد أزمة أمن بحري، بل أصبح عاملًا مؤثرًا في توازنات القوى العالمية، يعيد تشكيل خطوط التجارة والتحالفات الاقتصادية بطريقة قد تستمر لسنوات.

استهداف امدادات الحوثي

يركز معهد واشنطن في تحليله على أن القوة الصاروخية والبحرية للحوثيين لا تقوم على قدرات محلية بقدر ما تعتمد على شبكات دعم خارجي معقدة، ترتبط بشكل مباشر بإيران وشبكات تهريب إقليمية تمتد من القرن الأفريقي إلى خليج عمان. ويؤكد التحليل أن استمرار تهديد الملاحة لا يمكن فصله عن استمرار تدفق هذا الدعم اللوجستي.

بحسب التحليل، يقوم الحوثيون بتأمين قدر كبير من احتياجاتهم العسكرية عبر تهريب وقود إيراني عبر سفن غير خاضعة للتفتيش الدولي، وشراء أجهزة توجيه وطائرات مسيّرة ومكونات لصواريخ دقيقة عبر شبكات مشتريات تعمل بين دبي وماليزيا والصين، والاعتماد على موانئ رأس عيسى والصليف كمراكز رئيسية لاستقبال الشحنات الحساسة بعيداً عن أعين المجتمع الدولي. وهذه المنظومة، كما يشير المعهد، تمثل "شريان الحياة" الذي يبقي قدرات الحوثيين البحرية والصاروخية في حالة جاهزية مستمرة.

وفي تطور لافت، سجلت الأشهر الأخيرة سلسلة من الحوادث التي أصابت سفناً تنقل مواد إيرانية إلى الموانئ الحوثية. وبينها انفجار غامض ضرب ناقلة "كليبر" أثناء رسوها في ميناء رأس عيسى، وهي سفينة معروفة بنقل الغاز الإيراني إلى الجماعة، وحادثة أخرى أصابت ناقلة "فالكون" في خليج عدن بعد خروجها من رحلة تحميل في ميناء إيراني، وسط ترجيحات بأنها كانت تحمل شحنة موجهة للحوثيين.

ورغم عدم وجود إعلان رسمي عن الجهة المنفذة، يشير التحليل إلى احتمال كبير أن تكون هذه الهجمات جزءاً من استراتيجية سرّية تستهدف تعطيل سلاسل الإمداد الإيراني, دون دفع الحوثيين إلى رد فعل واسع قد يهدد خطوط التجارة الدولية بشكل أكبر.

ويرى معهد واشنطن أن استهداف خطوط الإمداد يمثل نقطة ضغط أكثر فاعلية من الضربات المباشرة على مواقع الحوثيين، لعدة أسباب أولها الضربات المباشرة أثبتت محدوديتها، إذ سرعان ما تستعيد الجماعة تشغيل مواقعها، وتعطيل الإمداد يقلل من قدرة الحوثيين على امتلاك الذخائر والمعدات الضرورية لشن هجمات جديدة. واستهداف السفن يمنع وصول الوقود الإيراني الذي يُستخدم لتمويل العمليات العسكرية، ولتغطية السوق السوداء التي تمثل أحد أهم مصادر تمويل الحوثيين.

وبذلك، يشير التحليل إلى أن الحرب ضد تهديد الحوثيين في البحر الأحمر قد تنتقل تدريجياً من مرحلة "الرد على الهجمات" إلى مرحلة "ضرب أنابيب التغذية" التي يعتمدون عليها—وهي خطوة يرى المعهد أنها السبيل الأكثر واقعية لخفض التهديد البحري على المدى الطويل.

تفكيك شبكات التمويل والتهريب

يؤكد معهد واشنطن أن التعامل مع الهجمات البحرية الحوثية بمنطق "رد الفعل" لم يعد مجدياً، وأن أي مقاربة لا تستهدف المنظومة التي تغذي قدرات الجماعة ستظل نتائجها محدودة. فبرغم الضربات الجوية المكثفة التي استهدفت ميناء رأس عيسى وغيره من المواقع الحساسة، تمكن الحوثيون – خلال أسابيع فقط – من إعادة تشغيل موانئهم وإعادة خطوط الإمداد إلى العمل، ما يعكس هشاشة الحل العسكري التقليدي أمام شبكة تمويل وتهريب شديدة التعقيد.

ويرى المعهد أن العقوبات الفردية التي تفرضها واشنطن أو أوروبا على سفن أو شركات محددة لم تعد فعّالة، فالسفن الخاضعة للعقوبات تواصل الإبحار نحو الموانئ الحوثية، محمّلة بشحنات وقود إيرانية تستخدمها الجماعة ليس فقط لإدارة عملياتها العسكرية، بل أيضاً لتمويل اقتصادها الموازي عبر شبكات السوق السوداء.

ويشير التحليل إلى أن قدرة الحوثيين على الالتفاف على العقوبات مرتبطة بانتشار شبكات مشتريات عبر آسيا وأفريقيا، تعتمد على واجهات تجارية وشركات وسيطة تعمل من الصين وماليزيا وحتى موانئ القرن الأفريقي.

وبناءً على هذا الواقع، يوصي معهد واشنطن بأن تتحول الاستراتيجية الأميركية والدولية من استهداف المواقع إلى استهداف المنظومة، عبر تعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج، وتتبع شامل لسلاسل الإمداد الحوثية بدءاً من إيران مروراً بالمضايق البحرية ووصولاً إلى الموانئ اليمنية، وتنفيذ عمليات تعطيل دقيقة تستهدف خطوط التمويل والتهريب دون التأثير على حركة التجارة العالمية، ومتابعة نشاط السفن الناقلة للوقود الإيراني وتفكيك شبكات الشركات الوهمية المستخدمة في عمليات "الغسل البحري" للشحنات.

ويشير التحليل إلى أن هذا النوع من العمليات – الذي يركز على "خنق الإمداد" – يمكن أن يقلل بشكل ملموس من قدرة المليشيا على شن هجمات صاروخية وبحرية، على عكس الضربات العسكرية التقليدية التي سرعان ما يعوّضها الحوثيون.

ويحذر تحليل معهد واشنطن من دخول البحر الأحمر مرحلة أشد خطورة، إذ بات الحوثيون يشكلون تهديداً مباشراً لخطوط التجارة الدولية وممرات الطاقة، ويملكون من الأدوات ما يكفي لاستمرار الهجمات رغم كل إجراءات الردع الحالية. مشيرًا  إلى أن التهديد الحوثي لن ينحسر فعلياً ما لم تُستهدف قواعده اللوجستية وشبكات التمويل العابرة للحدود، وفي مقدمتها تهريب الوقود الإيراني، ونقل المعدات العسكرية، وشبكات شراء المكوّنات المرتبطة بالصواريخ والطائرات المسيّرة.