الإخوان المسلمين وإيران في قلب المواجهة.. معركة تحرير الدين من هيمنة الجماعات المؤدلجة

السياسية - منذ 52 دقيقة
عدن، نيوزيمن، خاص:

تظهر التحولات العالمية المتسارعة أن واحدة من أهم المعارك الفكرية والسياسية في القرن الحادي والعشرين هي معركة تحرير الدين من هيمنة الجماعات الدنيوية المؤدلجة، بعدما أثبتت التجارب التاريخية والمعاصرة أن توظيف المقدّس في الصراع السياسي يقود إلى نتائج كارثية على الدولة والمجتمع معًا. 

في الوقت الراهن تتجه العديد من الدول لإعادة بناء العلاقة بين المؤسسات الوطنية والدين، بحيث يبقى الدين قيمة روحية وأخلاقية عليا، بينما تحتفظ الدولة بمهامها كأداة محايدة تنظم المصالح العامة وفق القانون.

وتشير تقارير وتحليلات ودراسات حول "الأنظمة التسلطية وفشل الإسلام السياسي" أن كل جماعة تسعى للسلطة عبر خطاب ديني تتحول، بمرور الوقت، إلى مصدر للأذى والصراع. وينبع ذلك من طبيعة هذه الجماعات التي تقوم على احتكار الحقيقة، وتوسيع دائرة التحريم والتخوين، وربط الولاء السياسي بالولاء العقائدي.

وشهدت أوروبا هذه الظاهرة في القرون الوسطى، خصوصاً في التجربة الإيطالية خلال صراع الكنيسة مع القوى المدنية، حيث أدى تسييس الدين إلى اضطرابات مزمنة، قبل أن تنجح الدول الحديثة في وضع حدود فاصلة بين المؤسسة الدينية والدولة.

وتقدم إيران منذ 1979 مثالًا معاصرًا على خطورة دمج التفسير الديني الأحادي مع السلطة السياسية. فقد أدى صعود الخمينية إلى تحويل الدولة إلى جهاز عقائدي يقمع المجتمع ويستنزف الاقتصاد ويقود صراعات إقليمية تحت غطاء ديني. وتشير تقديرات مراكز بحث دولية بينها  معهد كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط إلى أن أكبر ضحايا هذا النموذج هو الشعب الإيراني ذاته، الذي يجمع بين تمسكه بالدين ورغبته في حياة طبيعية، لكنه يجد نفسه محاصرًا بنظام يربط الطاعة السياسية بالالتزام الأيديولوجي.

وعلى النقيض من التجربة الإيرانية، برزت المملكة العربية السعودية خلال العقد الأخير كنموذج إصلاحي يقوم على إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والدين. فقد أوقفت القيادة السعودية مشاريع التوظيف الديني في المجال السياسي، وفتحت الطريق أمام بروز هوية وطنية جامعة تحترم الدين وتمنع استخدامه كوسيلة للنفوذ السياسي. هذا التحول، وفق دراسات معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أدى إلى تعزيز الاستقرار الداخلي وتخفيف تأثير الجماعات العابرة للحدود مثل الإخوان المسلمين.

ويشدّد الكاتب والمحلل السياسي اليمني نبيل الصوفي على أن تحرير الدين من سطوة الجماعات الدنيوية بات ضرورة لحماية دوره العظيم في حياة البشرية، مؤكّدًا أن الدين في جوهره منظومة قيم عليا تُعلي من شأن الإنسان وتبني وعيه، بينما تتحول الجماعات التي تزجّه في صراع السلطة إلى عبء على الأوطان والمجتمعات. 

ويؤكد الصوفي أن كل جماعة تسعى للوصول إلى السلطة عبر خطاب ديني تنقلب، في كل تجارب البشرية وعلى اختلاف الأديان والأوطان، إلى وكر للأذى والصراع، إذ تستمد شرعيتها من احتكار الحقيقة وتنصيب نفسها وصية على المجتمع، وهو ما حوّل الدين في كثير من الأحيان إلى وسيلة قمع بدلاً من كونه قوة روحية جامعة. 

ويستشهد الصوفي بالتجارب التاريخية قائلاً إن هذه الظاهرة ظهرت بوضوح في أوروبا المسيحية، وتحديدًا في التجربة الإيطالية التي عانت من صراع الكنيسة مع السلطة المدنية، كما تتكرر اليوم في إيران، حيث تسببت الخمينية في إنهاك شعب محبّ للدين والدنيا معًا، من خلال تحويل الدولة إلى جهاز عقائدي يقمع المجتمع ويصادر إرادته.

ويرى الصوفي أن ما يجري في السعودية مثال مضاد، حيث قادت الإصلاحات خلال السنوات الأخيرة إلى إنهاء مشاريع التوظيف الديني في المجال السياسي، الأمر الذي أفسح المجال أمام نهضة الهوية الوطنية السعودية التي استعادت حضورها بعد عقود من التأطير الأيديولوجي.

وتشير موجة القرارات الدولية والإقليمية خلال السنوات الماضية—من أوروبا إلى الشرق الأوسط—إلى اتجاه عالمي متصاعد نحو تجفيف منابع الجماعات الدنيوية التي تتلطى بالدين لتحقيق مكاسب سياسية. وقد شمل ذلك إدراج تنظيمات مثل الإخوان المسلمين وميليشيات مدعومة من إيران ضمن قوائم الإرهاب أو الملاحقة القانونية، إضافة إلى تضييق التمويل ومراقبة المؤسسات التي تستغل خطابًا دينيًا لأغراض حزبية.

وفي قلب هذا التحول تقبع فلسفة أساسية: الدولة جهاز تنظيمي محايد يخدم كل المواطنين، والأحزاب أدوات سياسية مؤقتة، بينما الدين قيمة ثابتة تعلو فوق الجماعة والحزب والمصلحة الضيقة. هذه الفكرة—التي ترتكز عليها نظرية الدولة الحديثة منذ كتابات ماكس فيبر—تمثل اليوم قاعدة لإعادة ضبط العلاقة بين الدين والسياسة، بما يضمن حماية الدين من التوظيف وتشويه المعنى، وحماية الدولة من التفكك أو هيمنة جماعة واحدة.

ولطالما شكّل الجمع بين الدين والسلطة السياسية مزيجًا فتاكًا لمسار الدول والمجتمعات، خصوصًا حين يتم توظيف المقدّس لخدمة مصالح دنيوية. التجارب عبر التاريخ — من أوروبا المسيحية إلى دول إسلامية — أثبتت أن هذا الخلط يؤدي إلى قمع متكرر، اضطراب مجتمعي، وصراعات على الهوية.

اليوم، وفي خضم تصاعد التحولات الإقليمية والدولية، تتجدد الدعوة إلى فصل الدين عن الأيديولوجيا السياسية. الدول التي مارست "تنظيم الدين" لصالح جماعات سياسية اكتشفت أن ذلك لا يحافظ على الدولة، بل يهددها. لذلك نشهد اليوم — كما في حالات عديدة — مسارًا يقود إلى تحرير الدين عبر حصار الأذرع السياسية التي استغلت الدين كغطاء للسلطة.

وفي السنوات الأخيرة تصاعدت الإجراءات ضد الجماعات والأحزاب التي تستند إلى خطاب ديني لتحقيق أهداف سياسية. أبرزها إعلان جماعة الإخوان المسلمين "منظمة محظورة" في الأردن، بعد اتهامات بتشكيل خلايا تخريبية، ما أدى إلى مصادرة أصول الجماعة وإغلاق مقارها، وتزامن هذا القرار مع تحركات في عدة دول أوروبية التي عزّزت إجراءات مكافحة ما يُعرف بالإسلام السياسي؛ إذ اتخذت تدابير لتجميد التمويل، مراقبة الحركات الدينية، وحظر أنشطة مرتبطة بجماعات مثل الإخوان. 

وفي الولايات المتحدة، أُعيد طرح مشروع قانون لتصنيف الإخوان على أنها "جماعة إرهابية"، في إطار تحرك سياسي أوسع يشمل حظر الدعم المالي والتحويلات والأنشطة المرتبطة بها. هذه التحركات ليست عشوائية، بل تأتي في سياق تحوّل سريع في النظرة إلى خطاب "السياسة بدعوى الدين" على أنه خطر على الاستقرار، وليس مجرد خيار أيديولوجي.

ويُجمع محلّلون على أن الأزمات الأمنية في دول كثيرة — صراعات داخلية، انتشار جماعات مسلحة، تفشي الفوضى الاقتصادية — جزء كبير منها ناتج عن استغلال الدين من قبل جماعات تسعى للسلطة دون تحمّل مسؤولية الدولة. لذلك بات الحظر أو التضييق على هذه الجماعات ضرورة لضمان أمن الدولة والمجتمع.

ويوضح الكاتب والمحلل السياسي نبيل الصوفي أن العالم يتجه اليوم — بوعي غير مسبوق — إلى حظر كل جماعة دنيوية تستخدم الدين لفرض رؤيتها ومصالحها، سواء جاءت هذه الجماعات تحت لافتات الإخوان المسلمين أو عبر المشروع العقائدي الإيراني، حيث باتت مقاربة التجفيف القانوني والمالي والسياسي خيارًا دوليًا لحماية المجتمعات والدول. 

على الجانب الاقتصادي، دور الصرافات، التمويل، التحويلات المالية العابرة للحدود كان دائمًا من أهم أدوات هذه الجماعات لتمويل أيديولوجيتها ونشاطها. ومع تحجيم هذه المصادر، يُصبح من الصعب على الجماعات الاستمرار في التنظيم والتوسع. على سبيل المثال، تقرير صادر عن مركز بحثي أوربي دعا إلى "وقف تدفقات التمويل العابرة للحدود التي تستفيد منها جماعة الإخوان وشبكاتها"، معتبرًا أن هذا التقييد أحد أهم ركائز مكافحة النفوذ الأيديولوجي. 

إذا نجحت هذه التحركات — الحظر، تجفيف التمويل، الأطر القانونية لمحاربة الجماعات — فإن النتيجة المحتملة ستكون إعادة تأصيل فكرة الدولة الحديثة: دولة محايدة ليست طرفًا في الصراع العقائدي أو المذهبي، بل تنظم العلاقة بين المواطنين على أساس القانون والمواطنة، دون تمييز ديني أو انتماء جماعي.

ويضيف الصوفي على أن الدولة، في جوهرها، أداة محايدة تُنظم حياة المواطنين وفق القانون، بينما تبقى الأحزاب أدوات سياسية متغيرة، أما الدين فيظل قيمة ثابتة تعلو فوق الجماعات والأحزاب والمصالح الضيقة، ولا يجوز تحويله إلى سُلّم للوصول إلى السلطة.

وهذا يعني أيضًا أن الدين سيعود إلى كونه قيمة معنوية وأخلاقية ثابتة، تُرَسّخ مبادئ الرحمة والتآلف والعفو، بعيدا عن أدوات القمع والتحزّب.

وعلى مستوى إيران ومع تزايد الضغوط الدولية والغربية على التمويل والجريان المالي للميليشيات والأذرع التابعة لطهران، قد ينهار نموذج الدولة الدينية الخارجية. وهذا قد يدفع النظام إلى إعادة ترتيب أولوياته أو الانخراط في إصلاحات اقتصادية واجتماعية.

وعلى مستوى العالم العربي، فالدول التي تعيش تحت تأثير خطاب إخواني — سياسياً أو اجتماعياً — قد تشهد مرحلة انحسار الجماعات أو تحولها إلى كيانات مدنية محايدة. وعلى مستوى المجتمعات قد تنجح فكرة المواطنة المدنية على أنقاض الهويات الضيقة، ما يفتح الباب أمام بناء مجتمعات أكثر تسامحًا واستقرارًا.