من الذاكرة.. قصص من قساوة الزمن وعقوق الأبناء من مجزرة "دار الأم تريزا" في عدن

متفرقات - Thursday 18 June 2020 الساعة 10:29 am
نيوزيمن، كتب/ هبة البهري:

في صبيحة يوم الجمعة 4 مارس 2016، الساعة تُشير إلى الثانية ظهراً، مجزرة دار الأم تريزا، هي جريمة قتل جماعي أُرتكبت داخل دار للعجزة والمسنين بعدن، قُتل 16 شخصاً بينهم أربع راهبات كاثوليكيات: اثنتان من رواندا، والأخريتان من الهند وكينيا، بالإضافة إلى حارسين وطباخ يمنيين وخمس نساء إثيوبيات والبقية من المساعدين المتطوعين ولم يُصب أي من المسنين بأذى.

أتذكر ملامح هذا اليوم الكئيب جيداً، ومن منا في عدن لم يصب بصدمة الذهول لبشاعة هذه الجريمة التي هزت قلب وجسد المدينة..

كنت أنا من عشاق الدار وزواره، الذي لطالما جمعتني ألفة مع فريق عمله، راهبات أثمرت زهرة شبابهن في هذا الدار لخدمة المسنين، أتذكر جيداً العبارات التي كانت تعلق على جدران الدار والتي كانت تنص على أهمية رعاية المسنين وأن هذا هو عمل خالص لوجه لله، اتذكر ابتسامتهم وطريقة معاملتهم اللطيفة للمقيمين، أتذكر جيداً طريقة اهتمامهم، أتذكر جيدا طاهية الطعام وولديها اللذين دائما كانا يرافقانها.

وسط هذه المشاهد لم يسعني الانتظار فور سماعي للجريمة الشنيعة التي ارتكبت، الساعة تُشير إلى الواحدة والنصف تماماً، وأنا أقف أمام الدار، وهناك كم هائل من الشرطة وسيارات الإسعاف، أدخل والصدمة تعتريني فأرى جثث من أفنوا ربيع عمرهم لهذه الدار في أماكن مختلفة في تربة الدار وغيرها في الغرف، مشاهد مرعبة مكبلين مقيدين الأيدي والارجل تم قتلهم وملاحقتهم بطريقة شنيعة في حديقة الدار والمطبخ والدماء في كل مكان، نعم لم يُسمح للدخول الا للمقربين وكنت أنا منهم..

يظل الروائي الوحيد لهذه القصة، هو القس الناجِ الوحيد الذي روى الحكاية بعدما تم الإفراج عنه بعد اختطافه..

يقول القس وهو يصف ما جرى في عدن: "كان هناك عدد قليل من حراس الأمن الذين قتلوا أولا، ثم أخذوني، وأطلقوا النار على الجميع أمام عيني، وأنا لا أعرف لماذا نجوت من القتل، ورأيت الأخوات والآخرون يسقطون واحدا تلو الآخر، وصليت بالنسبة لهم، ولمن قتلوا، ولم تنج سوى واحدة من الأخوات، لكنني اكتشفت ذلك بعد أن تم الإفراج عني ".

ويضيف: "عندما كانت الأخوات تسقط أمام عيني، كل ما يمكن أن أفكر أن الله رحمهم"، ويردف: "نحن نعمل في منطقة مزقتها الحرب، وكنا نصلي من أجل نهاية الحرب، وتغيير قلوب أولئك الذين يقفون وراء العنف، ولكن فجأة هجم علينا الإرهابيون بالقنابل".

عاد القس ساليسيان، الذي اختطف من قبل الإرهابيين في اليمن في عام 2016، إلى الهند في سبتمبر.

وتقول التقارير الإخبارية إن حكومتي عمان والهند، إلى جانب الفاتيكان، كانتا مسئولتين عن التفاوض حول الإفراج عنه، وقد قدم الإرهابيون طلبا للفدية يعادل 64 كرور روبية (كرور تعني مليون بالهندية) ، وهو ما لم يتم دفعه وفقا للتقارير.

يتحول المشهد إلى المسنين حالة رعب شديدة وهلع وصلت إلى الهستيريا، حتى إنني أصبت بها، كان لدي صديقة من المسنين، شعرت بالرعب وأنا أبحث عنها لعلها أيضا ممن خطفها الموت، وأراها تختبئ مذعورة تقول "كانوا يلاحقوهم ضربو الرصاص في كل مكان اجو يقتلونا، قتلوهم قتلوهم - تقصد الراهبات"- تصلبت في مكاني من بعد كل هذه المشاهد..

في ظل هذه المشاهد القاسية والجريمة الشنيعة والخوف والهلع، هناك بعض ضمائر الأبناء الذين رموا بآبائهم وأمهاتهم في الدار، استفاقت من سباتها حيث أسرعوا لأخذهم والتوقيع على إجراءات خروجهم..

تفاجأت لسماع بعض القصص حيث جلست بجانب مسنة تجلس على كرسي متحرك في حديقة الدار، موجهة أنظارها إلى البوابة، وإذا بي أسألها عن قصتها، وتقول عانيت لأعوام من فلذة كبدي "ابنها" حيث جعلتها زوجته خادمة في المنزل وعاملتها بأبشع المعاملات والضرب والطرد لليال كثيرة، حتى وصل بها الحال لتقول لزوجها، جر هذه العجوز الى دار العجزه، وقالت: أنا لا أريد ترك هذه الدار فهي بيتي، كنت أسمعها والدموع في عيني وعينها، هل ياترى هذا جزاء الإحسان الذي يقابله الأبناء لأبويهم، ما هذا العقوق، ما هذه القلوب الميتة.

وتقول مسنة أخرى، هجرني أبنائي هنا دون عودة، بعد استيلائهم على ممتلكاتي وتوقيعي على التنازل لهم، وقاموا برمي هنا، أنا لم أكن أريد المال ياخدوه، كنت فقط أريد الاهتمام بعد أن أفنيت عمري في تربيتهم.

ورأيت العديد من المسنين الذين رفضوا الذهاب مع من صحت ضمائرهم من أبنائهم وفضلوا المكوث في الدار رغم كل ما شاهدوه من جريمة وذعر وكأنه مشهد دموي أكشن لفيلم عالمي..

الساعة الخامسة عاد بعض الهدوء والسكينة للدار وانهال عليه متطوعون للمكوث فيه ورعاية المسنين مؤقتاً بينما يتم ترتيب موظفين آخرين، وأعود أنا إلى بيتي أنقل مشاهد الحزن لأسرتي، والسلام على أرواح من فقدناهم في هذا الدار، وما زلت اتحفظ عن ذكر بعض المشاهد محتفظة بها في ذاكراتي. 

عقوق الوالدين جريمة كبرى حرمتها كل الشرائع والأديان..