ابن الجالية الصومالية والمدمرة البريطانية وحرب السويس

متفرقات - Sunday 23 August 2020 الساعة 08:30 am
نيوزيمن، متابعات:

كثير من الأحداث قد حدثت في عدن، وهذا جزء من تاريخ عدن، لم يكن هناك تسجيل للأحداث البعض يعرفها لقربهم منها والبعض الآخر لا يعلم بها سوى القليل، ولم يكن هناك اهتمام بالتسجيل لهذه الأحداث، وقد كانت هناك أحداث ذهبت في عالم النسيان.

شاءت الصدف أن أعايش تلك الأحداث وبعضها قد اطلعت عليها من ملفات الشرطة التي انضممت إليها عام 1962 - سنوات القمة في الأحداث. كنت سعيد الحظ حين اطلعت عليها ولم أفكر يوما من الأيام أن أقوم بتسجيلها أو حتى كتابتها. أحداث مهمة وبعد سنين مرت من العمر تخوفت أحيانا حتى الكلام عنها أو حتى تسجيلها. لقد كادت بعض هذه الأحداث أن تذهب في عالم النسيان، أجلس اليوم بعد 42 سنة مرت من العمر لأدونها حتى لا تضيع، والكثير قد ضاع، كانت سنوات 1960 - 1967من أهم السنين في تاريخ عدن. تلك الفترة التي شهدت الثورة ثم الاستقلال، وبعدها تلك المآسي التي عصفت بالبلاد والعباد.

جاءت الثورة المصرية عام 1952 لتغير جو التفكير في عدن، بدأت الثورة في عدن وبدأ الحس الوطني بين الناس وتشكلت النقابات في عدن، دخلت عدن جو الثورة وكان هناك استعداد تام لذلك ومنها ثورة اليمن 1962. ثورة مصر وثورة اليمن لعبت دورا كبيرا في إشعال البركان في الجزيرة العربية، وكانت عدن أول بداية الطريق.

كان لتأميم قناة السويس صدى كبير في العالم العربي وإفريقيا والشرق الأوسط، ولعبت جريدة مصر الناطقة التي كانت تعرض في سينمات عدن دورا كبيرا في الثورة، وكانت محطة صوت العرب تلعب هذا الدور وتستنهض الشعور الوطني. لعبت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل دورا مهما في هذا المجال، والغلطة الكبرى التي صنعتها بريطانيا هي أنها ما زالت تعتقد بدورها الاستعماري الرئاسي في الشرق الأوسط، ونسى أنتوني إيدن أن الإمبراطورية انتهت بعد الحرب العالمية الثانية، تصرفت بريطانيا على هواها دون أنت تستشير أمريكا، فكان الغزو الثلاثي.

غزت 3 جيوش مصر تريد احتلال قناة السويس وإعادة الأمور كما كانت، فكانت الكارثة الكبرى التي دقت آخر مسمار في نعش الإمبراطورية البريطانية.

كان الغزو هو الغلطة التاريخية - استعملت بريطانيا أقوى قواعدها العسكرية القريبة من المنطقة ومنها قواعد بريطانيا في عدن، وكان في عدن قيادة القوة البحرية والجوية والجيوش البرية، والقاعدة الثانية كانت قبرص ولم تكن في مستوى قواعد عدن. انطلقت البوراج البريطانية من موانئ عدن، وانطلقت أسراب الهوكر هنتر تقصف مدن القنال ومدينة السويس.

أعلنت مصر الحرب الشعبية، ولم تفكر بريطانيا بالعواقب الوخيمة. وقف العرب في كل مكان بجانب مصر، حتى في المستعمرات البريطانية العربية خرجت المظاهرات تؤيد جمال وشعب مصر. تحولت القضية إلى قضية وطنية في البلاد العربية، وأصبح جمال عبد الناصر زعيم العرب والبلاد العربية، ولم يقف أحد بجانب بريطانيا حتى من كان يؤيدها قبل الغزو، لم يدرك السير أنتوني إيدن أن تبلغ الأحداث هذا المستوى، كان يعيش آخر أفكار الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط.

ما هي قصتنا؟؟ كنت أعمل في مركز بوليس المعلا عام 1965 - كنت ضابطا شابا ولا أعرف معنى لكثير من الأحداث، في أحد الأيام أتاني شخص من ميناء عدن، كان يريد التعين في قيادة زوارق قطر البواخر ودخول البواخر إلى الميناء، وهذه اللنشات يطلق عليها باللغة الإنجليزية - Tug Boats، في المركز قاموا بعمل روتيني معقد في غاية الغرابة، اخذوا عدة صور للرجل المتقدم للوظيفة، والبصمات، وطلبوا منه كفيلا ذا ثقة، أخذوا منه بيانات كثيرة ومعقدة، وفي آخر الأمر أرسل ملفه إلى قيادة الاستخبارات البريطانية في الشرق الأوسط، وأرسلوا الملف إلى قسم - الفرع الخاص – Special Branch - إدارة المخابرات في قوة بوليس عدن.

فكرت طويلا وطويلا عن سبب كل هذه الإجراءات المعقدة في وظيفة سائق لنش، استدعيت عريفا له خدمة طويلة في قوة بوليس عدن. قال لي: يا سيدي الملازم هناك قصة خطيرة أدت إلى كل هذه الإجراءات وهي قصة تاريخية لم يسمع عنها إلا أفراد وبعضهم مات ولا يكتب أو يدون. في عام 1956 عام الغزو الثلاثي كانت هناك مدمرة بريطانية في الميناء تتزود بالنفط لتبحر إلى مصر لتقصف مدن القنال، كان على مقربة منها لنش القاطرات ويقوده رجل صومال، نظر الصومالي بأسى إلى تلك المدمرة التي تقصف موانئ القنال.

ثارت النخوة في ضمير الصومالي وهو يرى تلك المدمرة، وصوت العرب ينادي العرب للوقوف مع مصر الجريحة، شغل الصومالي اللنش القاطر بسرعة قصوى – Full Speed وتوجه صوب المدمرة يريد أن يصدمها ليغرقها، كان يساعده عربي من أبناء المنطقة، من منطقة لا أريد ذكر اسمها خوفا من الحساسية، وكان هذا مساعد الصومالي، رأى اللنش يتوجه إلى المدمرة ليصدمها لتغرق، جاء من خلف الصومالي وضربه بقارورة زجاجية فسقط على أرض اللنش، سيطر على اللنش وحول مسير اللنش بعيدا عن المدمرة، بينما صعق بحارة المدمرة وهم يرون ذلك النش المتوجه نحوهم بسرعة، ولم يستطيعوا إيقافه - كانت القضية.. قضية ثوان، وقف اللنش بعيدا عن المدمرة، وذهب رجال المدمرة ونقلوا الصومالي إلى المستشفى بعد أن أصيب بجرح خطير، وبقى في المستشفى 8 أشهر ومنها إلى المحكمة والسجن وسفر من عدن، وصرفت للعربي من أبناء المنطقة جائزة مالية كبيرة.

ومن ذلك اليوم اتخذت كل هذه الاحتيطات في الميناء، وعملوا كل هذه الإجراءات المعقدة حتى يمنعوا مثل هذا الحادث الذي نفذه صومالي بطل - صحا ضميره.. نقول لهم.. يا زعماء الجبهة القومية هل فيكم أحد مثل هذا الصومالي يحمل هذا الضمير.. لقد مات ضميركم في 13 يناير - وعدن تغوص في دمها..

كتب: محمد أحمد البيضاني

- كاتب عدني ومؤرخ سياسي - القاهرة