رفض حرب 94 وقاد الحرب ضد الحوثيين ..النقيب يروي رحلة ثلث قرن مع الحمادي
السياسية - Thursday 03 December 2020 الساعة 09:24 am
ثمة أشخاص عندما تجتمع بهم على صعيدي المكان والزمان لا يمكنك إلا أن تعقد معهم رباط الصداقة والأخوة، رباطاً أبدياً لا تَحِلّ عراه تقادم السنوات، ولا متغيرات ظروف الحياة المتلاحقة. ينطبق هذا القول كثيراً على القائد الشهيد عدنان الحمادي – عليه رحمة الله.
منذ تعرفت عليه، في يوم من أيام سنة 1988، وعلاقتي به لم تتغير قيد أنملة، وإنما بقت على كرور الأيام والشهور والسنوات تزداد قوة ومتانة.
تعرفت عليه في “معسكر الحساحس”، منطقة الأعشور، “بيت الشرجي”، مديرية قعطبة.
لفيته وزملاءه يضجون بالنشاط والحيوية، ينفذون برامج تدريب الجنود بكفاءة عالية، ويحرصون على الحركة والانتقال بين المواقع العسكرية للواء، كـ “موقع الجُب”، و”موقع عُويش”، و”موقع الطيرمة”، وغيرها من المواقع بغرض التعرف على طبيعة الأرض، وجغرافية المنطقة.
استقامت علاقتنا البينية بداية على التبادل المعرفي، فقد استفاد كثيراً مني بحكم أني أقدم منه عسكرياً، وكذا معرفتي بكل تفاصيل المنطقة كوني أنحدر منها. وبالمقابل استفدت أنا منه الكثير من المعلومات كونه كان خريجاً من كلية عسكرية، ومتخصصاً بسلاح الدروع.
أول ما قَدِمَ إلى اللواء الثاني مدرع مستقل، عُيِّنَ قائداً لسرية مشاة في (ك 49) مشاة، ولم يعاد توزيعه على تخصصه، سلاح الدروع، سوى عقب قيام دولة الوحدة المباركة سنة 1990، حيث نُقِلَ إلى كتيبة دبابات هي الـ (كـ 64) في “معسكر الحمزة”، محافظة إب، ومن حينها أضحينا معاً ضمن كتيبة واحدة.
***
اتسمت الفترة التي أعقبت قيام دولة الوحدة بحدوث طفرة مهمة في تنمية وعينا، وبناء قدراتنا العقلية بناءً معرفياً، وثقافياً، من خلال الاطلاع المكثف على أغلب المجلات والصحف، وقراءة الكتب التي لم تكن موجودة قبل الوحدة، أو أنه كان غير مسموح بها، فصارت، بفضل دولة الوحدة وإتاحة التعددية السياسية، مسموح بها ومتاحة، علاوة على المجلات والصحف العربية كـ “مجلة النهضة”، و”مجلة المجلة”, و”مجلة الحوادث”، و”مجلة الشاهد”، و”مجلة الكتب وجهات نظر”, و”مجلة الهلال”، و”مجلة الساعة”، وصحف كـ “شيحان”، و”صوت العرب”، و”السياسية”، و”الحياة”، و”الحرة”، وغيرها كثير، ناهيك عن الصحف اليمنية الرسمية والحزبية والأهلية. كنا نعتكف فوق تلك الصحف والمجلات، ونتداولها فيما بيننا. كنا على اطلاع بمختلف التطورات والأحداث.
وبالنسبة لحرب صيف 1994، لم تكن لدينا أدنى قناعة بالمشاركة فيها لعوامل عديدة أهمها: إدراكنا لطبيعة المتغيرات المتسارعة التي تلت عمليتي الاستفتاء على دستور دولة الوحدة، وإجراء أول انتخابات برلمانية يمنية، عام 1993. وبدأت تلك المتغيرات بالمناكفات، والمماحكات السياسية، مروراً بمرحلة الاغتيالات التي شرعت باغتيال المهندس حسن الحريبي، والعقيد ماجد مرشد، وغيرهما، ومحاولات اغتيال كل من وزير العدل عبدالواسع سلام، ورئيس مجلس نواب دولة الوحدة الدكتور ياسين سعيد نعمان، وآخرين، إلى جانب اعتكاف نائب رئيس مجلس الرئاسة، الأستاذ علي سالم البيض، في عدن، وصولاً إلى تفجير الوضع العسكري في عمران بعد التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق بالأردن. كل تلك العوامل ولّدت لدينا عدم القناعة بالمشاركة بتلك الحرب.
وعلاوة على ذلك، كان قد انضم 10 ضباط من الجنوب على اللواء الثاني مدرع مستقل قبل دمجه للواء شلال، منهم الأخ محمد سعيد ناصر، والأخ عبدالله عمر أمذلق، والأخ حسين علوي، والعزب، إلى جانب الذين تخرجوا من الكلية الحربية من الدفعة الموحدة، منهم أحمد علي ناجي، وحزام النجار، وعارف، وكانت علاقتنا ـــ أقصد أنا والقائد الشهيد، وعدد من الضباط الشماليين ــــ بهم علاقة طيبة، إلى حد أنه كان يتم تصنيفنا على أننا اشتراكيون.
في بداية هذه الحرب، تعرض ــــ رحمة الله عليه ــــ إلى إصابة بالرأس، حيث لم يكن غطاء فتحة الدبابة محكم الإغلاق فارتطم الغطاء فوق رأسه، تم على إثرها إسعافه فوراً للعلاج، ولزم الإقامة في بيته في قريته مدة طويلة. بعدها حدث خطأ في تشخيص الطبيب، الذي أفاد بوجود ورم أسفل الجمجمة، وبقي يتردد للعلاج طيلة سنة كاملة، وكنت أرسل إليه براتبه الشهري بصفة مستمرة.
عندما اكتشفت أن قيادة اللواء قد أقدمت على رفع اسمه ضمن الحالات المطلوب إحالتها إلى كشوفات التقاعد، أقنعته بضرورة سرعة التحرك إلى المستشفى العسكري بصنعاء للعلاج. أظهر الفحص، الذي أجراه بالمستشفى العسكري عبر الأشعة المقطعية، أنه سليم، وليس لديه أي شيء مما قاله الطبيب المعالج له سابقاً. اتصل بي يومها ومعنوياته عالية، وكان سعيداً جداً من نتيجة الفحص والتشخيص، وتم إلغاء اسمه من كشف المحالين للتقاعد.
***
إن الحديث عن صديق عمر وأخٍ وزميل درب، على مدى 32 سنة، لا يمكن حصره في مقالة كهذه.
ما المقالة هذه عن القائد الشهيد إلا نافلة واحدة من نوافل الحديث الذي لا يفي به كتاباً، وإنما كُتُب، ولا رواية طويلة وإنما روايات، وليت الظروف تسمح لنا بالتفرغ لتدوين صفحات سيرتنا المشتركة.
إنها صفحات خالدة مليئة بالعظات والدروس الجديرة بالتدوين والتوثيق كي تكون مرجعاً للأجيال تستلهم منها دروس المجد، وعناوين الشجاعة، والعزة والكرامة والوطنية، والقيادة العسكرية الفذة.
لهذا أكرر.. القول: ما هذه المقالة إلا نافلة من نوافل الكلام الذي فرضته مناسبة التأبين السنوية الأولى لاستشهاده من قبيل التذكير بأهم فصل من فصول سيرته، لا من قبيل تدوين كل فصول سيرته المتفردة في جل جوانبها.
***
سأسوق، بإيجاز مقتضب، بعض ملامح ذلك الفصل الأهم لتلك السيرة المجيدة للقائد الشهيد، لأن تيك الملامح بحد ذاتها تعتبر العنوان الأبرز ليس فحسب في حياته وحده، وإنما تعتبر العنوان الأبرز في كل تاريخ العسكرية اليمنية المعاصرة.
لقد كان لي، وعشرات من الضباط، وبضع مئات من الأفراد والمتطوعين المقاتلين تحت قيادته، الشرف في صناعة ذلك المجد في لحظة تاريخية فارقة أعادت الاعتبار الشرف للقوات المسلحة اليمنية، وأسمعت آذان العالم التي كادت تصمها عن السماع، والإصغاء إلى أنه لا يزال ثمة نظام سياسي شرعي يحكم البلاد.
محطة مفصلية تَغَنَّى فيها القدر أغنية مجد العسكرية اليمنية من جديد بعد أن كادت تسحق تحت بيادات خونة الشرف العسكري، والخارجين من كهوف التاريخ بجبال مران. محطة خطت تفاصيل أسطوريتها البطولية بيادقنا السمراء تحت قيادة بيرقها الماجد عدنان الحمادي. إنها محطة إعلان أن نظاماً يحكم البلد مازال موجوداً. إنها، أيضاً، محطة إعلان بقايا وجود الشرف العسكري. تلك المحطة هي “معركة المطار القديم” في تعز.
ملحمة انتقشت تفاصيلها المجيدة رنات أزندة البنادق الرافضة الخضوع والاستسلام للعصابة الانقلابية. ملحمة كان عدنان فارس فرسانها الوضاء.
كنا يومها تحت قيادته على موعد مع القدر الذي اختارنا بعناية فائقة، دون غيرنا لخوض غمار معركتها.
كنت جنباً إلى جانب القائد. كان دوري كأي ضابط خاض تلك الملحمة، أَجْلِس مع القائد، أشاركه قرارته.. أساعده في بعض أعماله، واتصالاته، أتحرك حيث يأمرني، ويستدعي تواجدي، وأعيد توزيع المقاتلين بغرض تعزيز الموجودين سابقاً.
***
إن السبب الذي جعلني وغيري نشارك في “معركة المطار القديم”، لاسيما بعد أن استسلمت معظم الألوية للمليشيات دون أية مواجهات، فاضطررنا لخوض تلك الملحمة، هو أننا بُنِينا على أساس وطني صرف.
أينما نتواجد سنؤدي واجبنا وفقاً لتوجيهات القيادة السياسية والعسكرية.
وعندما يتم الانقلاب على السلطة الحاكمة، وتُختَطَف الدولة، وتصادر مؤسساتها، هنا يتوجب علينا مواجهة الانقلاب. لا يهمنا من استسلم، أو حايد، لأننا نحمل قضية عادلة، ومن أجلها سنقاتل ونُقتَل.
***
لم يكن قرار خوض المعركة بالأمر السهل. لقد فُرِضَ علينا القتال وهو كُره لنا.. كيف..؟
استنفدنا، حينذاك، كل خيارات تجنب الحرب. ضيقوا علينا الخناق من كل الاتجاهات، وفُرض على اللواء حصار خانق. جيشوا علينا قوة كبيرة من ألوية الحرس الجمهوري، والأمني، والمليشيات الحوثية، والمتحوثين. وظفوا البروبوجندا الإعلامية الهدامة ضدنا. حاولوا شق اللواء باستغلال وصول مرتب شهر مارس، واستخدامه كورقة ضغط علينا.
السماح للجنود الذين كانوا في “معسكر لبوزة”، و”جبل صبر”، و”معسكر خالد”، و”قطاع المخا” بمغادرة معسكراتهم ومواقعهم، والعودة إلى بيوتهم بهدف إضعاف قوة اللواء.
لقد وجدنا أنفسنا، أمام كل هذه الإجراءات التعسفية، مجبرين على المواجهة التي قَدَّمنا فيها 38 شهيداً، و128 جريحاً.
مع العلم أني عندما شاركت في تلك المعركة كنت تواً خارجاً من “مستشفى البريهي” بعد أن تعالجتُ فيه من أعراض أولية لبداية جلطة. لكن عندما كان دوي أصوات القذائف يملأ سماء مدينة تعز، نسيت أني كنت مريضاً، وتعباناً، وشاركت مع الحمادي في خوض المعركة.
***
أتذكر أنه قبيل انفجار الوضع، أخذ الأخ القائد، رحمة الله تغشاه، يُحَرِّك دبابات إلى “حارة الزنقل”، وإلى “جبل جرة”، بالإضافة إلى تواجدنا السابق في “مفرق شرعب”، و”موقع النصر”، و”مفرق بني عون”، و”وادي القاضي”، وشركة النفط. إلى جانب ذلك، كان لنا أطقم دورية متحركة، وقوة موجودة لحماية فرع البنك المركزي في مدينة تعز.
في تلك الأثناء، بدأ القائد يوسع نفوذه خارج “المطار”، فقام بتوزيع أسلحة وذخائر، وصواريخ لو، إلى العديد من الشخصيات، منها الأخ اللواء يوسف الشراجي، والشيخ أكرم القاسمي.
طبعاً.. قبيل بدء “معركة المطار” كان الانقلابيون قد استهدفوا أفرادنا الموجودين عند مبنى فرع البنك المركزي، وجرح أيمن الطيب، واستهدفوا أفرادنا، أيضاً، في “جولة المرور”، حيث استشهد الرقيب يحيى العمري، واستهدفوا أفرادنا، كذلك، في “نقطة وادي القاضي”، واستشهد المساعد نصيب الجهراني من ذمار، واستهدفوا أفرادنا، أيضاً، في “حارة الزنقل”، واستشهد المساعد مجيب عباد، وأصابوا وجرحوا عدداً كبيراً أيضاً، واستولوا على طقم فورد مسلح 14.5، وأسروا أفراده في “جولة وادي القاضي”.
لا أستطيع ذكر بقية أسماء الشهداء عدا من ذكرت أسماءهم سابقاً لكونهم أول من عطروا بدمائهم الزكية مدينة تعز، والجرحى مع أنهم أغلى زملائنا. وسبب تحفظي عن ذكر أسمائهم يُعْزَى لدواعٍ أمنية، خاصة أن معظم الجرحى، وأسر الشهداء، يعيشون في مناطق لايزال العدو يسيطر عليها.
***
الحقيقة أن ظروفنا كانت صعبة للغاية، ولن أنسى تفاصيل تلك المعركة الأسطورية. كنا محاصرين من أربع جهات، جرحانا استشهدوا، وهم ينزفون دونما نستطيع إسعافهم، أو نأخذ أية مواد غذائية أو أدوية لعلاجهم.
الأفراد كانوا في تناقص مستمر.
الكهرباء ضُرِبَت، ومحطة البترول أحرقت.
أي تعزيز كان يأتي إلينا من الخارج لا يستطيع الوصول إلينا.
المياه نفدت، وكان هناك مسبح داخل المعسكر كنا نستخدم مياهه في الليل، دون أن يعرف الكثير من المقاتلين ذلك.
لقد عملنا، وبذلنا كل جهودنا لنصمد صموداً أسطورياً لمدة 23 يوماً.
لم يبق يقاتل معنا في المعركة إلا من كان لديه قناعة وإيمان بعدالة القضية، ويرى أنه صاحب الحق.
أتوا يقاتلونا من أطراف البلاد، ونحن في مقر أعمالنا، وكان هذا الإحساس هو ما يقوي عزائمنا.
سقط “معسكر المطار” لأن طبيعة المعسكر لم تكن مهيأةً للقتال أصلاً، فالعدو كان قد سيطر على كل الأماكن المهمة حول المعسكر، وعوامل أخرى كثيرة لا يتسع المقام هنا لذكرها – سبق أن ذكرها القائد في كثير من حواراته يمكن العودة إليها.
***
أتذكر نهار يوم الثلاثاء، 21 أبريل 2015، بعد الظهر، بينما كُنتُ مخزِنَاً مع الأخ القائد بغرفة صغيرة بالطابق الأول لمبنى قيادة اللواء في “معسكر المطار”، وكان موجوداً معنا الأخ الشيخ توفيق الوقار.
للغرفة نافذة زجاجية صغيرة في الاتجاه الغربي للمبنى. تفاجأنا بمقذوفة من نوع 14.5 تخترق الشباك الزجاجي من النصف، ويسكن بالجدار المقابل لنا. ساعتها، غَيَّرنا المكان، وانتقلنا إلى سلالم البدروم.
أما في عشية نفس اليوم، فقد كَثَّفَ العدو هجومه علينا من جميع الجهات، دون أي انقطاع، بمختلف الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة.
أحرقوا الأرض، وكنا قد قمنا بتوزيع معظم الذخائر التي في المخازن إلى قطاعات المقاتلين في المتارس والخنادق، لأن العدو كان يحاول استهداف المخازن والقيادة بضربهما.
عند الساعة الثانية بعد منتصف تلك الليلة، خففوا الضرب لمدة 21 دقيقة تقريباً، ربما لغرض تبديل مقاتليهم بآخرين حيث استأنفوا الكرة بالهجوم علينا.
كانت أصوات إطلاق النيران لا تنقطع إطلاقاً، وأفرادنا يردون ويقاتلون باستماته.
لم نقدر نسوي أي شيء لشهدائنا، وجرحانا داخل الخنادق، والمتارس.
وأخيراً أُجبرنا على الخروج.
أنا شخصياً خرجت في حدود الساعة الثامنة والنصف صباح يوم الأربعاء، 22 أبريل 2015. خرجت أنا، والأخ العميد عبدالملك الأهدل. سمعته ونحن منسحبين يرد على اتصال يقول:
ما عد باقي إلا أنا وعلي النقيب.
لم أعرف مع من كان يتكلم.
ورغم أن الحوثيين كانوا يسيطرون على الأربعة الاتجاهات، إلا أنهم خففوا علينا الضرب من الاتجاه الغربي من موقع الدفاع الجوي، كي يسهلوا لنا الانسحاب حتى لا نقاتلهم قتال المنتحرين.
***
كنت قد خرجت ومعي أربعة مرافقين هم المساعد وليد الخولاني، والرقيب نصر منصور مخارش، والجندي يوسف العكام، ووصلنا إلى “حارة الظهرة”، الواقعة بين “نادي الصقر”، و”شارع الثلاثين”.
هناك اجتمع علينا مجموعة كبيرة من الأفراد، وأجبرونا على تسليم أسلحتنا، ووصفونا بالبياعين والخونة، وعرفت الأخ فؤاد مهيوب، “عاقل حارة الظهرة”، الذي كان يعرفني تماماً. كنت أنتظر منه موقفاً إيجابياً، ولكنه لم يقم بأي شيء حتى أنه لم يوجه إليهم أي انتقاد، واضطررنا إلى تسليمهم الأسلحة.
التفت باتجاه “معسكر المطار”، رأيت جوار “النادي الأحمر”، وهو سكن الضباط داخل المعسكر، كثافة بشرية تتحرك بسرعة إلى حد أني شعرت بفتحة على صلعة رأسي يصعد منها ما يشبه الدخان والبخار، وبقية شعر رأسي كأشواك القنفذة. سيبقى هذا الموقف من أصعب المواقف في كل حياتي إلى درجة أني مكثت بعده منهاراً ومتوتراً ما يقارب الأسبوعين.
كان هدفنا أن نتحرك إلى “نادي الصقر” الذي كانت تتواجد فيه دبابة وأفراد كي نشارك بالقتال معهم. لكن عندما وصلنا وجدنا المواطنين ينهبون معدات وأثاث النادي.
***
بعد معركة المطار مكثت مدة في مدينة تعز. كان هدفي الاشتراك ضمن أية مجاميع ستتشكل لمقاومة الحوثيين، وقد أرسلت من هاتفي عدة رسائل للشيخ حمود المخلافي أُعَرِّفَهُ بنفسي، وأني أحد الضباط الذين قاتلوا في “معركة المطار”، وأعرض عليه المشاركة والانضمام لأية مجاميع مقاتلة، لأنه كان قد بدأ، مع آخرين، بتأسيس المقاومة، فكنت أرسل إليه الرسائل، ولكنه لم يكن يرد على أية رسالة.
كنت لا أريد العودة إلى القرية، وأنا أحمل الإحساس بالخيبة من نتيجة المعركة، فبقيت في البيت بتعز، وغَيَّرت الشرائح، ولم نكن نستطيع التواصل مع بعضنا البعض.
كان الحمادي والعوني قد أغلقا هاتفيهما. في بداية شهر مايو 2015، غادرت مدينة تعز إلى القرية.
***
في القرية اتصلت ببشير الهبة، أسأله عن رقم أكرم سعيد محمد، مرافق الحمادي، لآخذ منه رقم القائد، فقال إنه ليس موجوداً معه، وإنما معه رقم العقيد عبدالحكيم الدربعي. أخذت منه رقم الأخير، وتواصلت معه، فأخبرني أنه أصيب في “معركة المطار القديم”، ولم أكن أعلم أنه قد أصيب، وبدوره أعطى رقمي للقائد.
كان القائد يتصل بي من رقم لم أرد عليه، بسبب أن المرحلة كانت مرحلة خوف وحذر. وعندما عرضت الرقم عبر الكاشف طلع اسم صاحب الرقم محمد عبده علي حزام مهيوب، ولم أكن أعرف أن القائد يستخدم هذا الرقم باسم آخر لا أعرفه. حاولت التواصل معه على رقم البيت فلم يرد.
في يوم 7 مايو 2015، وصلتني رسالة من رقم محمد عبده حزام مهيوب، تقول: “معك عدنان الحمادي.. الحمد لله على سلامتك.. إن شاء الله تكون بخير.. لنا تواصل”. ومن بعدها بدأنا نتواصل من جديد.
***
وكان القائد يفكر يمدني بأسلحة وذخائر لفتح جبهة ضد المليشيات في منطقتي، وألزمني بتجميع القوة الموجودة في إب. وبالفعل بدأت التواصل مع الضباط والأفراد، وجعلهم على أهبة الجاهزية، على أن يبقى كلٍ في محله، ولكن لم تتهيأ الفرصة لتلك الجبهة.
بعدها تواصل معي، كي أنزل إلى عنده، فأرسل إلى عندي، بمحافظة إب، الأخ أمين مخازن التسليح المساعد محمد عبدالمجيد السبئي، والأخ المساعد محمود الطيب، وصادف يوم وصولهما استشهاد العميد محمد عبدالله العوني، رئيس أركان اللواء 35 مدرع، وأصيب الأخ العقيد عبدالحكيم الدربعي.
على إثر ذلك تحركت إلى مدينة دمت، أنا والأخ العقيد ركن عبدالجبار السورقي، للمشاركة هناك مع قوات الشرعية، ولكن وجدت أن الواقع هناك لا ينسجم مع طبيعتي العسكرية التي تربيت عليها.
اتصل بي القائد – رحمه الله، واقترح عليّ ألا أقدم إليه عبر طريق إب- الحوبان- الحجرية، وإنما سيرتب لي المرور عبر طريق المسيمير- لحج، وأرسل لي خمسين ألف ريـال مصاريف مواصلات. وكنت حينها في “دمت”، فانتقلت، مع مجاميع تتبع رشاد الضالعي، إلى الضالع.
علقت في مدينة الضالع لحظات صعبة، ولم أجد غير سيارة قات متجهة إلى عدن. امتطيت “كبن” السيارة، فوق شبك سقفها، من الضالع حتى مدينة عدن.
ومعروف كيف تقطع سيارات القات مسافة الطرقات، سرعة جنونية. كنت متمسكاً متشبثاً بكل أصابعي وأقدامي بشبك الحديد، والريح تصفعني بلطماتها، وتشذخ وجهي، وتصم سمعي حتى أني تركت فردة من حذائي تطير، ولم أغامر في إمساكها.
وصلت مدينة عدن وأنا بحالة يرثى لها، واتصلت بالقائد – رحمه الله، وبدوره أرسل إلى عندي مندوبه في عدن حينها، طاهر القحطاني، الذي أخذني وطلب مني الراحة والمبيت تلك الليلة بأحد فنادقها.
عندما استيقظت، صباح اليوم التالي، كان جسمي مدقدقاً، أو مُكَسَّراً، وكأن كل عضو بجسمي غير موجود، من أثر السفر فوق شبك سقف “سيارة المقاوتة”، بين الريح والشمس.
***
وصلت منطقة “العين”، في مديرية المواسط، محافظة تعز، يوم الخميس 26 مارس 2016، وتعانقناً عناقاً يعصى وصفه.
جلسنا، أنا والقائد عدنان الحمادي، في مقر المعسكر، داخل غرفة التسليح، وعَرَّفَنِي، يومها، على العقيد أمين الأكحلي، الذي كان موجوداً عنده.
استمر فترة من الزمن يوعز لي بأني سأكون أركان حرب اللواء، بدلاً عن الشهيد العوني، ولكن لم يتم ذلك، وبعد مدة أسند لي مهمة القوى البشرية، ومهام أخرى كزيارة للجبهات، أو التدخل في حل بعض الإشكاليات التي تقع هنا وهناك، وإعادة تأسيس اللواء التي تحتاج إلى مرجعيات خاصة. وأخيراً استقر بي الأمر بتكليفي بمهمة ركن القوى البشرية باللواء.
إن إدارة القوى البشرية في اللواء 35 مدرع، تعتبر من المراحل الصعبة في حياتي، ولكنها رغم صعوبتها كانت تمثل لي التأسيس الصحيح للواء 35.
وحضرت، في هذا السياق، مع الأخ الشهيد القائد، أول اجتماع عُقِدَ في مبنى شركة النفط، يوم السبت 13 مايو 2016، وحضر هذا الاجتماع الأخوة قادة الألوية الثلاثة 35، و22، و17، والعقيد منصور الحساني، الناطق الرسمي حينها، وبعض قادة المقاومة، منهم الأخ نبيل الواصلي، والأخ الشهيد أبو الصدوق، وغيرهم، وحضر اللقاء من السياسيين الأستاذ عبدالله نعمان، والأستاذ عارف جامل.
عُقِدَ الاجتماع برئاسة الأخ محافظ المحافظة الأسبق، الأستاذ علي المعمري، وقائد محور تعز، حينها، اللواء الركن يوسف الشراجي.
كان الهدف من الاجتماع دمج المقاومة ضمن وحدات الجيش الوطني، وهو ما حدث فعلاً.
وفي اللقاء، تم أيضاً مناقشة موضوع مسرح العمليات العسكرية للألوية، وموضوع ترقيم المجندين، ورفع كشوفات بالقوة الموجودة التي سيتم في ضوئها المطالبة بمرتبات عبر التحالف.
***
قبل تعيني ركن قوة بشرية، تَحَرَّكت مع القائد لزيارة الجبهات، منها، على سبيل المثال لا الحصر، “جبهة بني عمر”، المرابطة في “جرداد”، و”جبل الضعيف”، و”قرن الشامي”، و”قرن الغراب”، و”الغيل”.
بعد تعيني، زُرتُ معه عدة جبهات، وحضرت معه عدة اجتماعات في التربة، وفي بيته.
وقمنا بمسح معظم المواقع في “جبهة الأحكوم”، و”قَدَسْ”، و”جبهة التربة”، في المواقع المطلة على “جبهة الأحكوم”، وكان ذلك بعد سقوط “جبهة حيفان” بيد العدو.
وتم تشكيل جبهة حيفان على أساس أن تتكون من قطاعين.
القطاع الأول: “قطاع هيجة العبد- الأحكوم”، بقيادة عبده نعمان.
القطاع الثاني: “قطاع قَدَسْ”، بقيادة العقيد طه عون.
على أن تكون “جبهة حيفان” كاملة تحت قيادتي. غير أني لم أباشر العمل، فقد تزامن هذا التعيين مع انفجار الوضع، في مطلع شهر أغسطس 2016، في مديرية الصلو، حيث تحركت إليها بأمر الأخ القائد الشهيد، إلى جانب الأخ العميد الركن عبدالرحمن الشمساني، الذي غادرها بعد يومين من وصولنا، وبقيت فيها مدة شهر ونصف الشهر.
وإن نسيت فلن أنسى موقفاً حدث لي في “جبهة الصلو”.. تقدمنا، في معركة يوم 23 أغسطس 2016، حتى وصلنا إلى “معبر البركة”، وحدث تراجع لقواتنا. كُنتُ، حينها، في “التَّبَّة” المطلة على “معبر البركة” من اتجاه “تَبَّة المنية”، ونفدت الذخائر علينا. أحاط بنا العدو من الجهة الشمالية، والغربية.
كان الموسم موسم الزراعة. انسحب الكثير من الزملاء، ولم يبق غيري أنا، والأخ المساعد عبدالله الحيدري. وأثناء ما كنا محاصرين، أخذ القائد يتصل بي أكثر من عشرة اتصالات يحثني فيها على ضرورة الانسحاب، وعندما سألته بعد ذلك:
ليش كثفت الاتصالات..؟
أجاب على سؤالي إجابة عززت قناعتي بعظمته، وفرادته القيادية قائلاً:
شعرت بالخوف.. لقد خسرت العوني، ولا أريد أن أخسرك بعده.
***
علاوة على ما ذكرته أعلاه من تحركات وتنقلات، وزيارات مع القائد الشهيد، ومشاركات في جبهات اللواء، شاركت، أيضاً، في “معركة الشَّقِب”، التي أطلق عليها القائد تسمية “معركة صقر الحالمة 1″، في 16 رمضان 1438، الموافق 10 يونيو 2017، أنا والأخ رئيس عمليات اللواء 35 مدرع، العقيد عبدالحكيم الجبزي، والعقيد محمد شمسان، ضابط أمن اللواء، وهي معركة تزامنت مع معركة التقدم والتراجع في “جبهة الصلو”. وشاركت، أيضاً، في معارك تحرير الأماكن التي كانت تحتلها المليشيات الحوثية في “مديرية الصلو”، عام 2018.
***
كثيرة هي الصفات التي لفتت انتباهي في الأخ القائد – رحمة الله تعالى عليه، فمثلاً من صفاته العسكرية: اتصافه بالرجولة، الشرف، الشهامة، الصدق، الأمانة، الصبر، الوفاء، الإخلاص. أما الصفات الأخلاقية: تجد فيه البساطة، التواضع، الشعور بالآخرين، التسامح، مسالم غير عدواني، الكرم، الترفع عن الصغائر. أما عن صفاته القيادية: ستجده يعتد بالكفاءة، قوة التأثير في صفوف المرؤوسين، متمكن في عمله أي مهني، سعة الصدر، قوة التحمل، فهو قيادي، إداري، سياسي، وأكبر نجاح له أن دوافعه فطرية، وليست مكتسبة. أما عن صفاته الاجتماعية:
تتجلى مكانته الاجتماعية بكسب قلوب وحب الآخرين. بكل تلك الصفات الآنفة الذكر، وعلاقته الواسعة داخلياً وخارجياً.
أما عن إنسانيته فحدث عن ذلك ولا حرج؛ كان إنساناً بكل ما تحمله المفردة من دلالة ومعنى، رجل يحس بالآخرين ومعاناتهم، ويقدم مالم ولن يقدمه غيره من خدمات عامة، ودعم للمرضى، ومساعدة الفقراء، والمحتاجين… أسأل الله أن تكون في ميزان حسناته.
***
ومثلما هي صفاته الجمة العطاء كثيرة جداً، كذلك كثيرة هي المواقف التي تشاطرتها معه. مثلاً تجده أسعد ما يكون عند تحقيق أي تقدم في الجبهات. لكن أسعد موقف له في تقديري هو إعادته لتأسيس اللواء 35 مدرع، وبنائه على أسس وطنية.
أما المواقف التي كانت تحزنه وكنت أحزن لحزنه كثيراً: تعرضه لحملات إعلامية ظالمة، وصلت إلى حد وصفه بالعمالة، والخيانة، وهو الذي لا يدانيه في وطنيته أحد، وكان أوفى للوطن ولشرف الجيش يوم خان من خان وسقط من سقط.
كنت أحزن عند تعرضه للتحريض، والتشويه، والمحاربة.. الخ. كان ذلك يؤلمني جداً ما بالك به هو لأني أعرف أن علاقاته بالآخرين كلها تخدم اللواء، والمنطقة، والمواطنين، واستيعابه للجميع.
***
يكفي أن الشهيد القائد، رغم تعيينه قائداً للواء 35 مدرع في مرحلة حرجة، إلا أنه استطاع مواجهة الانقلابيين في “معركة المطار”، فكان أول قائد عسكري شرعي يعلن الحرب ضد الانقلابيين. واستطاع، بعد ذلك، إعادة بناء اللواء 35 من الصفر، فليس له منافس في مسألة إعادة بناء الجيش الوطني على أسس وطنية ومهنية عسكرية.
واستطاع تحرير معظم المناطق المحررة حالياً في ريف ومدينة تعز. استطاع الدفاع عما حرر، ولم يسمح للعدو التقدم بمناطق الحجرية.
شهدت المناطق التي كان ينتشر اللواء فيها أمناً واستقراراً طيلة الخمس سنوات الماضية. لهذا سيبقى الشهيد الحمادي أنموذجاً فريداً لن يتكرر على الأقل في مدانا الزمني المنظور.
[1] ـــ العقيد علي أحمد ناجي النقيب، يحمل بكالوريوس علوم سياسية من كلية التجارة جامعة صنعاء 1997. حاصل على عدة دورات عسكرية، وخريج معهد اللغات العسكري. تقلد عدداً من المناصب القيادية العسكرية في اللواء 35 مدرع، كركن استخبارات اللواء، وقام، في أبريل 2015، بعمل ضابط أمن اللواء، بعد تعرض ضابط أمن اللواء، العقيد محمد شمسان، لإصابة جراء حادث مروري. والعقيد النقيب يشغر حالياً ركن القوى البشرية في اللواء 35 مدرع، وأسهم إسهاماً كبيراً في إعادة تأسيس اللواء 35 مدرع على أسس وطنية وحديثة.