لعنة "داعش" واستمرار مسلسل الفساد في العراق

العالم - Friday 15 January 2021 الساعة 09:37 am
نيوزيمن، النهار:

شهد عام 2014 انفجار واحدة من أكثر فضائح الفساد الإداري والمالي في العراق إيلاماً. فحين تمكن تنظيم "داعش" الارهابي من الاستيلاء على مدينة الموصل تبيّن أن ذلك الانتصار لم يكن نتيجة لمعركة وقعت على الأرض بل كان عبارة عن هبة من القوات المسلحة العراقية التي انسحبت بناء على أوامر عليا تاركة في مواقعها معدات عسكرية أميركية حديثة تقدر قيمتها بأكثر من مليار دولار.

كان ذلك الحدث مؤشراً على أن الفساد في المؤسسة العسكرية قد بلغ ذروته. فالقائد العام للقوات المسلحة الذي هو رئيس الوزراء نوري المالكي هرب يومها إلى إيران، أما قادة القوات العسكرية التي تركت مواقعها من غير قتال، فقد هربوا إلى الاقليم الكردي "كردستان" وتمتعوا بحماية كردية. وكان من المتوقع أن تلجأ الدولة إلى إجراء محاكمات للمسؤولين عن تلك الهزيمة المدوية التي كادت تداعياتها أن تسقط العراق كله في قبضة "داعش" لو أن التنظيم الارهابي أراد ذلك.

غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث، فعاد رئيس الوزراء مستقوياً بحماية إيرانية، كما أن الولايات المتحدة التي تم تسريب سلاحها النوعي إلى تنظيم إرهابي لم تتخذ موقفاً واضحاً وتُرك الأمر للجان داخلية شكلها مجلس النواب العراقي وظلت النتائج التي توصلت إليها طي الأدراج والكتمان فيما استمرت المؤسسة العسكرية والأمنية على حالها من جهة البنية ولم تحدث أية مراجعة لما جرى. لقد جرى تمرير الكارثة بكل فصولها اللاحقة من غير الاستفادة من دروسها.

وبدلاً من ترشيق المؤسسة العسكرية من أجل التركيز على الاحتراف النوعي بخلفية وطنية، لجأ رئيس الحكومة الذي استعاد تماسكه إلى دمج الميليشيات التي كانت حتى تلك اللحظة تُمول من قبل إيران أو مما تحصل عليه من غنائم هيمنتها على بعض الوزارات بالجيش العراقي تحت عنوان عريض هو "هبئة الحشد الشعبي" التي أصبحت كياناً عسكرياً رسمياً.

أُلحقت يومها الميليشيات بالقوات المسلحة لتُضاف من خلالها مئات ألوف الأسماء إلى سجل الرواتب التي تتقاضاها القوات المسلحة من غير أن تكون للمؤسسة العسكرية صلاحية إدارة تلك الهيئة التي ظلت مستقلة، بل ظلت تتلقى الأوامر والتعليمات مباشرة من "الحرس الثوري". ابتلعت الدولة العراقية يومها الطعم المسموم فصارت تنفق على مؤسسة عسكرية خارجة عليها بل أن تلك المؤسسة صارت تُقاسم الجيش العراقي كل ما يرد إليه من عتاد ومعدات ومستلزمات قتالية.

وحين أعلن رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي عن فضيحة "الجنود الفضائيين" وهم الجنود الملحقين بسجل الرواتب من غير أن يكون لهم وجود فعلي، لم يجرؤ على الاقتراب من سجلات "الحشد الشعبي" التي يُحتمل أن تكون مملوءة بالفضائيين الذين تذهب رواتبهم إلى زعماء الميليشيات. فالدولة ينتهي دورها عند تقديم المال الذي يتم تخصيصه بناء على سجلات ورقية.

في المقابل، فإن المؤسسة العسكرية "الجيش والقوات الأمنية" شهدت خلال السنوات التي تلت ظهور "داعش" على الساحة العراقية تضخماً لم تشهده حتى في زمن الحرب العراقية ــ الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي. لقد صار الانتساب إلى تلك القوات أكثر السبل يسراً للحصول على دخل مالي ثابت لا يتعرض للاهتزازات أو المفاجآت. وفي آخر احصاء أعلنته المؤسسة العسكرية بلغ تعداد المنتسبين إلى القوات المسلحة بما فيهم أفراد الميليشيات المنضوية تحت لواء "الحشد الشعبي"، مليوني منتسب. وهو رقم كبير في موازاة استمرار تهديدات "داعش" الذي لا يزال يُستعمل من قبل الأحزاب مثل فزاعة بين حين وآخر.

لذلك، فحين يُعلن عن تخصيص مبلغ 19 مليار دولار للمؤسسة العسكرية ضمن موازنة السنة الحالية وهي موازنة تعاني من عجز كبير أصلاً، فإن ذلك الإعلان لا يفاجئ أحداً نظراً لما هو ما معروف عن تلك المؤسسة من فساد صار جزءاً من بنيتها منذ عام 2003. 

لقد تعرضت تلك المؤسسة لعمليات فساد كبرى منذ البداية. كانت وزارة الدفاع محط تنافس بين الأحزاب والكتل السياسية لكونها الوزارة الأغنى والتي يتمكن الطرف الذي يحصل عليها من تمرير صفقات فساد هي الأكبر قياساً بما يمكن تمريره من صفقات من خلال الوزارات الأخرى باستثناء وزارة التجارة التي يتعلق جزء من نشاطها بالبطاقة التموينية. 

لذلك صار استمرار "داعش" لا غنى عنه من أجل أن يستمر مسلسل الفساد. ليس لأن "الحشد الشعبي" يجد سبباً مقنعاً لاستمراره وحسب بل وأيضاً لأن الرقابة على الأموال المنهوبة من خلال الإسراف في الإنفاق تصطدم بجدار الخوف من أن يتمكن التنظيم الإرهابي من العودة إلى احتلال مدن وقرى لن تقوى القوات المسلحة على الدفاع عنها بسبب رداءة تسليحها أو ضعف التدريب لدى منتسبيها أو قلة تعداد أولئك المنتسبين إليها.

صار تنظيم "داعش" جزءاً من اللعبة التي صارت دروب متاهتها الوهمية تتكاثر بغض النظر عما يؤكده الواقع. فالأخبار التي تنقل وقوع معارك ضد التنظيم الإرهابي لا تعني أن تلك المعارك قد وقعت بالفعل بقدر ما تشير إلى استمرار الحاجة إليها ولسان حال الفاسدين يقول: "لو لم يكن هناك تنظيم داعش فسيكون ضرورياً أن يتم اختراعه من جديد".