العسلي.. اليمن التي تآمر عليها الجميع

تقارير - Sunday 18 April 2021 الساعة 12:12 am
نيوزيمن، كتب/ فؤاد أمير:

كان بن شملان وفرج بن غانم نظيفي اليد نعم، لكن سيف العسلي كان يملك بالإضافة إلى ذلك عقلا اقتصاديا ليبراليا جبارا بحكم دراسته وابحاثه في الجامعات الأميركية. ورؤيته الاقتصادية التي بدأها كانت ستحرر بالفعل الاقتصاد اليمني وتضعه على سكة ألف باء اقتصاد حديث متناغم مع العالم كما كان يكرر ويطمح. 

....

لمن يهتم سوف أحدثكم هنا عن جوانب من فلسفته الاقتصادية للبلد، وسأبدأ ببعض المحطات التي لم تتحقق إلا في زمن العسلي الذي غادرنا بالأمس بكورونا اللعين. وهي أرقام ومنجزات حققها خلال عام ونيف فقط من توليه حقيبة وزير المالية والاقتصاد في العام 2006. 

... 

120 مليار ريال فائض الموازنة العامة للدولة عام 2006، لأول مرة في تاريخ موازنات الجمهورية اليمنية. 

... 

 "600 مليار ريال (3 مليارات دولار ونصف حينها) ما يشكل نصف موازنة الجمهورية اليمنية حينها، سوف نسلمها لك يا دكتور سيف كرقم من الغرفة التجارية والصناعية، على أن تعفينا من آلية ضريبة المبيعات المقترحة". هذه العبارة سمعتها من فم محفوظ باشماخ رئيس الغرفة التجارية والصناعية خلال اجتماعهم مع  العسلي لمناقشة تطبيق ضريبة المبيعات. 

رفض العسلي هذا المقترح وأصر بقوة على تطبيق الآلية التي اقترحها لضرييبة المبيعات وبقية الأوعية الضريبية. وبعد نهاية الاجتماع سألته، مندهشا عن سبب هذا الرفض، كان رده أن الآلية والإصلاح الضريبي المقترح سوف يسهم بعد 3 سنوات فقط من التطبيق وبطريقة مؤسسية في رفد موازنة الجمهورية بموارد دائمة وثابتة للجمهورية اليمنية تتجاوز نصف الموازنة العامة للدولة دون ترك الأمر لرحمة الغرفة التجارية ورجال الأعمال.  

بموجب هذه الآلية سوف يكون كل ما تحققه الشركات من مبالغ،  مكشوفة وشفافة، من أول فاتورة في الميناء إلى آخر فاتورة للمستهك،وبهذه الطريقة لن يستطيع أحد أن يتهرب من الضريبة. 

في المقابل كانت اصلاحاته تقضي  بتخفيض ضرائب الدخل من 35 إلى 20%، بالإضافة إلى تعهده بسداد الدولة لعشرات المليارات ديون الشركات وقطاعات الأعمال على الدولة المتراكمة منذ عقود، وهو ما حصل لاحقا فعلًا. فلن ينجح أي اقتصاد بدون كسب ثقة رجال وقطاعات الأعمال في الحكومة والسياسة الاقتصادية. 

... 

قبل أن يقدم هذه الآلية الضريبية،  كان قد هاجم عشش الدبابير وهوامير الفساد الكبيرة في مصلحتي الضرائب والجمارك، وهي عصابات كانت قد تحكمت بفروع المصالح الإيرادية لعقود ولم يعد أحد من الوزراء السابقين قادرا على التعامل معها وافقدت ثقة القطاع الخاص في ممثلي الدولة وسلطاتها الضريبية. 

...

%30 تخفيض من موازنة وزارة الدفاع، دون أن تتأثر صرفياتها بشيء، كيف ذلك؟! 

لم تكن هناك موازنة لوزارة الدفاع طوال تاريخها، فقط رقم محدد يدرج في الموازنة بدون نقاش باعتباره امرا سياديا، إلى أن جاء سيف العسلي وأجبر وزارة الدفاع على تقديم موازنة تفصيلية، وهنا كانت المفاجأة، بمجرد مناقشة البنود والتفاصيل تبين أن صرفيات وزارة الدفاع الفعلية أقل بأكثر من 30٪ تقريبا من الرقم الذي كان يقدم سنويا. لمجرد مناقشة البنود والتفصيل وأين سيذهب كل ريال تم توفير ثلث الموازنة الأكبر بين الوزارات والفائض تم توجيهه نحو  قطاعات الصحة والتعليم. 

...

كان وزيرا للمالية فقط، لكنه استثمر صلاحيات وزارته لتشكيل ثنائيات مع عديد من الوزراء والجهات لتحقيق إصلاحات عميقة في بنية وعمل بقية الوزارات والمصالح الجوهرية. 

..

 3 ملايين طالب يمني في التعليم المهني

كان الهدف الذي وضعه العسلي للتوسع في التعليم الفني، وعبر ثنائية تعاونه مع وزير التعليم الفني حينها قام برفع موازنة التعليم الفني  120٪ مرة واحدة. 

حين سألته عن فلسفته هنا، شرح لي لقاءاته مع المسؤولين في دول الخليج العربي، وأنهم يفضلون الآسيويين لأنهم أكثر حرفية ومهنية من العامل اليمني. 

قلت لهم _يتحدث العسلي _ هناك 27 مليون عامل أجنبي، إذا استطعنا أن نستحوذ من بينهم على سوق 3 ملايين عامل في الخليج، فإن هذا الأمر سوف يساعد كثيرا في دعم العملة اليمنية عبر التحويلات الخارجية فضلا عن أن 3 ملايين فرصة عمل تعني عمليا إعالة ما يقارب عشرة ملايين يمني، كما أننا لن نحتاج بعدها  لمساعداتكم لنا. لقي هذا المقترح ترحيبا من المسؤوليين الخليجيين واستعدادا للتجاوب، شرط "العمالة النظرية". 

حوكمة الشركات العامة المملوكة للدولة

 كانت فلسفة العسلي إزاء هذه المؤسسات هي الحوكمة الرشيدة وخصخصة أجزاء منها  على أن تكون الدولة مساهما معتبرا فيها. 

وفي قلب مشروع الحوكمة هذا "فصل ملكية هذه المؤسسات الإيرادية عن إدارتها". قريبا من نموذج  طيران إماراتية، حكومة دبي  تملك الحصة الأكبر فيها لكن ادارتها إدارة قطاع خاص لا تتدخل فيها الدولة، والنتيجة مليارات الدولارات تدخل خزينة دبي في حين أن اليمنية تأتي خسرانة كل عام وتطلب دعما إضافيا من وزارة المالية. 

...

بنفس الرؤية سيتم التعامل مع مؤسسة الموانئ والمنافذ اليمنية، التعاقد مع شركات دولية لإدارة كل ميناء ومنفذ على حدة بما فيه مطار صنعاء وعبر مناقصات دولية شفافة ومفتوحة. وبهذا المنطق سوف تتحول هذه المؤسسات من منطق الوظيفة العامة إلى المنطق الربحي وتتضاعف إيرادات هذه المؤسسات بدلا من عجوزاتها السنوية التي تقدمها. 

...

اصطدم مع علي الكحلاني حول الشكل القانوني للمؤسسة الاقتصادية اليمنية التي تملك عشرات الشركات والمزارع والتي لا تورد ارباحها لخزينة الدولة. قال للكحلاني، حددوا موقفكم أما أن تكونوا شركات قطاع عام وتدفعون الأرباح سنويا للدولة، أو أنكم شركة قطاع خاص، وبالتالي تدفعون الضرائب. أما هذا الوضع الضبابي والثقب الأسود للمال العام يجب أن ينتهي.  

على ذلك يمكن قياس قطاع الاتصالات، البريد، الكهرباء، المياه، النقل، الانترنت، وقطاع المشتقات النفطية... الخ. كلها يتم حوكمتها  وبادارة القطاع الخاص مع فتح باب المنافسة للقطاع الخاص والاستثمار الخارجي.

هذه الشركات بعد حوكمتها وتخصيص إدارتها وجزء من ملكيتها سوف تكون نواة لبورصة يمنية مصغرة قادمة ستليها شركات القطاع الخاص، وأهم شروط البورصات، كما هو معروف الشفافية المطلقة لكل ما يتعلق بالإدارة والأرقام المالية للشركات. 

... 

ثنائية أخرى نجح فيها كانت مع الارحبي وزير التخطيط الراحل، استطاع هذا الثنائي كسب ثقة المنظمات الدولية في تمويل المشاريع الانمائية وصندوق التنمية الاجتماعي وبالفعل شهدت اليمن نموا ملحوظا في العامين 2006 و2007. 

...

ثنائيته مع وزير الخدمة المدنية حمود الصوفي عجلت في إنجاز البصمة لأغلبية موظفي الجمهورية المدنيين. وبالنسبة للعسكريين كان قد نجح في الضغط على وزارة الداخلية وتم تبصيم أفرادها باغراءات زيادة في موازنة الداخلية تذهب للأفراد. 

اصطدم الاثنان الصوفي والعسلي بقائد الفرقة الأولى علي محسن حين أرادوا تنفيذ البصمة في الجيش. علما بأن ثلثي المزدوجين وظيفيا كانت وظيفتهم الثانية في الجيش. 

...

2 مليار ريال مشروطة، لبنك مفلس ومتهالك، مثل بنك التسليف الزراعي، منحها العسلي، وكانت مسؤولة عن الانطلاق الصاروخي لبنك التسليف ورئيسه حافظ معياد. 

... 

في بداية 2007 جاء وفد من فرع منظمة الشفافية الدولية للإشادة باللائحة التنفيذية للموازنة العامة للدولة والتي كانت ستحقق شفافية كبيرة في إدارة المخصصات وبطريقة تجعل من اليسير على أي مراقب اكتشاف أي خلل أو فساد ظاهر. أتذكر حينها حديث المحامي جمال الاديمي الذي جاء مع الوفد وقال مخاطبا الدكتور العسلي بصراحة، أنا حين قرأت هذه اللائحة ظننت أني في دولة اسكندنافية، لكن هل ستستطيع بالفعل تنفيذها؟ كان رده، أنا أراهن في السنة الأولى على تنفيذها بنسبة 50%، وإذا نجحت خلال ال4 السنوات القادمة الوصول إلى مستويات ال80٪ في تنفيذ اللائحة والموازنة المؤتمتة  فسأعتبره نجاحا لليمن، وحتى لو تم تغييري فالمسار الذي رسمته لادارة المالية العامة للبلد سيتم السير عليه بسهولة لمن يأتي من بعدي. 

لم تكن هذه خيالات، بل أرقام وإنجازات كنا نراها ونرصدها كل يوم. كان هناك بالفعل أمل في تحسن الوضع الاقتصادي للبلد تدريجيا، لكن هذا التحسن كان على حساب شبكات المصالح الراسخة منذ عقود في المصالح الحكومة.

... 

كان خطأ الدكتور سيف العسلي الكبير أنه راهن فقط على مواجهة كل هذه الضغوط والعصابات واللوبيات، معتمدا فقط على دعم الرئيس صالح، وللأمانة ظل يدعمه بلا حدود لأكثر من عام قبل أن يخضع أخيرا لاصرار علي مجور، رئيس الوزراء الجديد الذي ازاح العسلي كشرط لتولي منصب رئيس الوزراء. 

كان شجاعا لكنه أيضا مستفزا، وهذا كان عيبه الكبير -رحمه الله. لكن استفزازه هذا في مواجهة العتاة وليس البسطاء والموظفون الذين كان قريبا منهم ويستمتع بالحديث معهم.

في إحدى المرات في مجلس رأيناه يرمي ملفا في وجه وزير الرياضة والشباب، صهر صالح، حين عاتبته عن هذا الأسلوب قال لي، وهل تعرف ما هو مضمون ملفه وحجم الفساد الذي فيه. إذا ما تعرفش إخرس.  

...

في مقيل مع بعض بعد صدور اللائحة التنفيذية قال له حمود عباد وزير الأوقاف يا دكتور هذه اللائحة سوف تقوم بتجويعنا ومحد يجوع وزير 400 ألف شهريا لا تكفينا كوزراء. 

...

حاول أحد المقاولين الكبار في الجمهورية توسيط يحيى الراعي رئيس البرلمان لصرف أحد المستخلصات، لكنه رد مش أنت وحدك، انتظروا شوي خلوه يبدأ يسرق وبعدين عانتوسط لكم. اما الآن حازق على بطنه ما اقدر افعلكم شيئا. 

... 

كنت انتقد مدحه الزائد للرئيس صالح، لكنه كان يبرر ذلك باعتبار صالح رجل اليمن الأقوى في هذه المرحلة ولسنوات قادمة ولا يوجد بديل له، وعبره يريد تحقيق كل برنامجه الاقتصادي الطموح، وأن هذا المدح يمنحه حصانة في مواجهة كل هذه العصابات واللوبيات الحكومية التي يخوض حربه معهم.  

...

هذه مجرد نتف من ذكريات كبيرة عشتها مع الدكتور العسلي حين تشرفت بالعمل مع طاقمه في تلك الفترة.


هل تريدون المزيد منها؟ هل ابكيكم أكثر عن انزه وأدهى عقل اقتصادي مر على اليمن. ربما في قادم المناسبات إن كان هناك من يهتم.