مرضى الفشل الكلوي.. أعداد متزايدة وحكومة غائبة

السياسية - Wednesday 07 March 2018 الساعة 08:16 pm
نادر الصوفي، نيوزيمن، خاص:

مأساة تكتشف فداحتها وأنت على عتبات بوابة مبنى مركز الغسيل الكلوي في مستشفى الجمهورية بالعاصمة المؤقتة عدن، ففي اللحظة التي تفتح باب المركز يستقبلك عشرات المرضى بعيون محملقة أجهدها المرض، وضاعفه انتظار دور غسيل دماء تراكمت السموم فيها كما تتراكم ساعات الانتظار.

تدخل المبنى وأنت توزع نظراتك على المرضى في صالة الاستقبال، تبادلهم ابتسامات حزينة، كأنك تقول "أجل أنا أشعر بأوجاعكم"، وعند هذا المقعد تتخير الجلوس بقرب المريض "غسان علي حمود" من أبناء محافظة الضالع، مريض فشل كلوي من أسرة فيها 3 أخوة تعاني ذات المرض، ودون مقدمات تبادله الكلمات لتكتشف أن مرض الأخوة وراثي نتيجة "خلل في عمل الكلى يؤدي في الأخير للفشل الكلوي"، غسان اختصر الكلام وقال: "نطلب بمركز في الضالع، نحن نعاني مرتين، أولها السفر من الضالع، وثانيها أوجاع المرض".

غسان، ومثله المئات من أبناء المحافظات المحيطة بعدن، يتوافدون إلى مركز غسيل الكلى في مستشفى الجمهورية، تستقبلهم الدكتورة نبيهة أحمد سالم باماجد مسئول مركز الغسيل الكلوي: "المركز يتحمل عبء مرضى الفشل الكلوي في المحافظات المجاورة لعدن طوال الأسبوع ونحن نعمل، ونظرا لزيادة أعداد الحالات للأسف الشديد نقول اننا لم نعد نستطيع ترتيب مواعيد جديدة لهم في قادم الأيام، صباح هذا اليوم وصل إلينا 13 مريضا من مديرية الحبيلين حيث خصص لهم فاعل خير باصا كمساعدة إنسانية لينقلهم إلى مركز الغسيل، ونحن حتى نسهم في تخفيف معاناتهم خصصنا الوقت من الصباح حتى الساعة 1 ظهرا لكل من يأتي من خارج عدن من الريف".

مرضى الفشل الكلوي مأساة استفحلت، حتى بلغ صداها المنظمات الإنسانية والصحية العالمية، فهذه اللجنة الدولية للصليب الأحمر ناشدت "آلاف اليمنيين المصابين بالفشل الكلوي يواجهون خطر الوفاة ما لم تتلقّ مراكز الغسيل الكلوي المتبقية في البلاد المزيد من الإمدادات، وما لم تُدفع أجور الطواقم الطبية العاملة بها"، في حين مسامع السلطات اليمنية منشغلة بالإنصات لأصوات الانفجارات وتوزيع المناصب والمغانم، وكسب الخصومات السياسية، ليبقى أنين المرضى، محصورا بين جدران مباني مراكز غسيل الكلى المتبقية في مستشفيات منزوعة الفاعلية.

فعلا، إن معاناة مرضى الفشل الكلوي في هذا البلد معقدة، ويمكن وصفها بالقضية المركبة التي تحمل في جوفها أكثر من مشكلة وتتطلب أكثر من حل، وفقا لوصف مدير عام مستشفى الجمهورية في العاصمة المؤقتة عدن الدكتور أحمد سالم الجربى، القضية تكمن في أن "المرضى والدولة يعتقدون أن كل العلاج يتمحور حول الغسيل الكلوي، فيما أن الغسيل هو إجراء مؤقت لمدة زمنية قد تكون 3 أشهر بهدف الحفاظ على حياة المريض حتى يتمكن من إيجاد المتبرع وبالتالي يجري عملية زراعة، وفي اليمن يستمر المريض سنة إلى 15 سنة وهو يجري الغسيل الكلوي والنتيجة ازدياد أعداد المرضى فيما الموازنة المالية هي ذاتها لا تلبي التطورات في أعداد المرضى".

عند هذه النقطة تصبح العلاقة واضحة، كلما غابت الحلول الطبية المطلوبة، ارتفع أعداد المرضى، والنتيجة كما يشرحها الدكتور الجربى "لدينا في مستشفى الجمهورية اعتماد مالي لمركز غسيل الكلى، عدد 18 ألف جلسة في السنة، في حين أجرينا العام الماضي 25 ألف جلسة، ويتضح أنه لدينا 7 آلاف جلسة عجز، وقيمة الجلسة الواحدة تكلف 44 دولارا ويكون مجموع العجز المالي 308000 ألف دولار في السنة وعليه يكون هذا الرقم في هذا العام مضاعفا".

مازلنا في صالة الانتظار داخل مبنى الغسيل الكلوي في مستشفى الجمهورية، ننتظر إكمال الإجراءات الوقائية التي يلزمك بها المسئول في الاستقبال، تلبس أكياسا "بلاستيكية" على شعر رأسك وفي قدميك، تفتح الباب وتدخل لصالة شاسعة بطول 30 مترا تقريبا وعرض 10 أمتار، مزدحمة بالأسرة التي تجاورها الأجهزة الطبية، موزعة على جانبي الصالة وفوق كل سرير يقبع مريض فشل كلوي، موصل في جسده ناقل الدم إلى الأجهزة لتعيد تنقيته وإرجاعه لجسم المريض.

تبقى الدكتورة نبيهة أحمد سالم باماجد مسئول مركز الغسيل الكلوي بجانبك تسير معك فيما تلتقط الصور للمرضى، وهي تحدثك بضمير الطبيب المتفهم لحجم أوجاع مرضى منسيين: "المريض ينتظر من يومين متتاليين، لا نستطيع عمل له جلسة غسيل بالمعايير الطبية المحددة عالميا، لأن كل مريض من حقه عمل جلسة لمدة 4 ساعات في اليوم، و3 جلسات في الأسبوع، غير أن الذي حاصل الآن جلستان في الأسبوع 3 ساعات في اليوم، وهذا طبيا ينعكس على المريض في تراكم السموم والسوائل، لكن هذه امكانيات الدولة".

تتنقل بين أسرة المرضى، طالبا مصافحة كل مريض فيهم، تعبيرا عن تعاطفك معهم أو لنقل هو إحساس إنساني يعتريك في لحظة تعجز بها عن مد يد المساعدة، لأن الأمر أكبر من شهامة مواطن، هي مسئولية بحجم دولة غائبة، يلفت انتباهك طفل بعمر 13 عاما، أو كما تعتقد أنه طفل، ليتضح أنه شاب في 18 من عمره، فما تلبث ثواني وأنت تحدق إليه، حتى تخبرك الدكتورة نبيهة، "هذا.. قائد فضل ناجي، أحد مرضى الفشل الكلوي المنتظمين لدينا لعمل الغسيل الكلوي منذ 9 أعوام، يأتي مرتين في الأسبوع من منطقة الحبيلين"، وحتى تفهم لماذا مايزال قائد طفلا، هو يعاني مرض السكر وشبكية العين، فيما ظروف أسرته أكثر من مأساوية، فوالده عسكري راتبه متوقف منذ عام ونصف، يعمل في الحرف اليدوية حتى يتمكن من إحضار قائد إلى هنا".

في عدن يوجد ثلاثة مراكز غسيل كلى، مركز مستشفى الجمهورية ومركزان آخران "عبود، ومستشفى الصداقة"، غير أن مركز الجمهورية يظل الوحيد القادر على العمل وفق طاقته الكلية، مما يضاعف المشاكل المتعلقة بمرضى الفشل الكلوي، واعتمادا على ما أفاد به الدكتور الجربى "المحافظات حول عدن لا يوجد فيها مراكز لا في لحج ولا الضالع ولا يافع ولا ابين. . كل الحالات في تلك المحافظات تأتي لدينا ومع أوضاع تعز باتت تأتي إلينا حالات من تعز ومن إب والمخا والبيضاء والمركز قدراته الفنية والايدي العاملة والأجهزة والميزانية محدودة.. نحن المركز الوحيد في العالم الذي يفتح ابوابه على الساعة الخامسة صباحا ويغلق الساعة 12 ليلا وبنفس القوة البشرية والامكانيات، كله من أجل أن لا يموت المرضى".

إذن، هو الموت يحاصر مرضى الغسيل، حيث تكتشف أن أغلب حالات الوفاة ناتجة، بحسب المسئولة المباشرة عن المركز، الدكتورة نبيهة: "سبب وفاه أغلب مرضى الفشل من الأرياف عدم مقدرتهم الوصول إلى المدينة في المواعد المحددة، هذه مأساة غياب مراكز الغسيل في القرى والمحافظات تخفف العبء على المريض، ثم مريضك سيغسل بأريحية في المواعد، فنحن هنا نسابق الزمن نفتح من الساعة 4 فجرا حتى نتمكن من استيعاب أكثر عدد من المرضى، وإذا استمرت الأعداد بالتزايد في هذا العام يمكن نصل إلى لحظة الانسداد، لأن امكاناتك هي هي.. يعني امكاناتك لا تسعفك، تزيد عدد الجلسات للآخرين لأن مواردك المخصصة لم ترتفع منذ وضعها قبل الحرب وحتى اليوم، ولكم أن تتخيلوا إلى أين سيؤول إليه الوضع في المركز خلال العام الحالي.

مرضى بين الحياة والموت تكالبت عليهم الظروف القاسية، وفساد مستشر في جسد دولة مبعثرة تهشمها حروب وجماعات لا ترحم ولم تترك رحمة الله تحل في أرضه، فهذا مدير مستشفى الجمهورية يؤكد "توجد جهات أخرى تبحث عن الربح من خلف مرضى الغسيل الكلوي ونهب المال العام المخصص لمرضى الفشل ويحولونه عبر قنوات أخرى ليس لها علاقة في الأمر.. ومن هنا نناشد الحكومة أن تحافظ على المخصصات العامة لمرضى الفشل الكلوي رغم العجز.

بين فشل السياسات الصحية لحكومة الشرعية، واستمرار تدهور أوضاع هي في الأساس متردية، يقبع زمن غائر بالمآسي، يتوجع فيه بصمت عشرات آلاف مرضى الفشل الكلوي في مختلف محافظات اليمن.