بالأغاني يتمسّك اليمنيون بصنعاء التي فصلها عنهم الحوثي.. في الطريق إلى "موكا"

السياسية - Friday 05 April 2019 الساعة 07:43 am
المخا، نيوزيمن، فيصل الشارحي:

عند وصولي إليها، في الثانية عشرة ظهراً، بدت لي مدينة التربة هادئة.. لا شيء يُبدّد صمتها سوى هدير إطارات السيارات المسرعة وأصوات أبواقها المرتفعة.. فيما كانت الأبنية تردِّد صدى صوتٍ بَدَا شاحباً وهو يصيح: "المخا.. المخا".

فالناس هناك تغادر المدينة ظهراً قافلة إلى منازلها بالمناطق الريفية التي تحيط بها، بعد أن يكونوا قد أكملوا شراء حاجياتهم فيتركوا التربة وحيدة تواجه سكونها بانفراد.

كنا سبعة أشخاص جميعنا ذاهبون إلى المقصد ذاته "مدينة المخا الساحلية". وقد صعدنا على متن سيارة رباعية الدفع تتقدم بضع سيارات قديمة الطراز وكأنها في وضعية ترقب وانتظار للحظة اقتراب دورها في نقل الركاب.

بداخل تلك السيارة انتظرنا لنحو ساعة إلى أن جاء شاب وفتاتان، وجميعهم في العشرينات من العمر، ليعلن السائق انتهاء ذلك الانتظار بعد اكتمال النصاب، فالسائقون هناك لا يتحركون دون أن تمتلئ سياراتهم بالعدد الكافي من المسافرين والذين يتيح لهم قدراً من الربح لقاء عملهم.

انطلقت بنا السيارة عند الواحدة ظهراً، وسارت بنا بسرعة جنونية في طريق بدت رملية، ثم اجتازت بنا مرتفعات عالية ومنحدرات صخرية بعضها شاهقة، في أماكن عُبدت والبعض الآخر رُصف بالحجارة، فيما أجزاء كبيرة منها ما تزال ترابية، تترك السيارة خلفها سحابة من الغبار الكثيف عند اجتيازها.

بدت معظم المناطق التي اجتزناها في بني شيبة وراسن والوازعية جافة كحال المناطق الريفية في مدينة تعز في هذه الأوقات من السنة والتي تسبق موسم هطول الأمطار، وعادة ما تكون الأشجار قد وصلت إلى حافة الموت عطشاً.
أما المنازل، فقد بدت متناثر وبعيدة عن بعضها وكشفت لنا عن ضآلة في عدد السكان عكس المناطق الأخرى من المدينة.

رحلة ممتعة

الاستماع إلى أحاديث الركاب يأخذك إلى عالم مليئ بالآلام التي أوجدتها حرب الذراع الايرانية على الشعب، ويعصف بك الذهن على أحداث قاسية بعضها لا تزال مشاهدها الدموية تتكرّر على نحو سيئ، والبعض الآخر ما تزال عالقة في الذهن لا يمكن نسيانها.

شعور جيد

تخلق الأغاني الشعبية أثناء تعاطي القات جواً مبهجاً ومليئاً بالنشوة، وقد أحسست بانطباع جيد وأنا أجتاز كل تلك الأماكن في مناطق ريفية لم يسبق لي أن زرتها من قبل، لم يكن هذا شعوري فقط إنما هناك من كان يشاطرني من الركاب الشعور ذاته، لقد سمعت أحدهم من خلفي يقول بصوت منخفض "يا لها من ميزة، أن نمر على أماكن جديدة لم يسبق لنا التعرف عليها.. إنها الجانب الإيجابي من الحرب". قلت له "بل هو جحيم اكتوى الجميع بنيرانه، فمليشيات الحوثي قطعت طرقاً كانت تختزل المسافات الطويلة بأوقات زمنية أقل لتجعلها أكثر بعداً ومشقة، ويبدو أنه اقتنع برأيي فلم يرد شيئاً على ما قلته، عندها ساد صمت مطبق وبدا وكأنّ الجميع لا يحبذون الخوض في نقاش يفسد الجو العام للسفر.

وواصل سائق السيارة تركيزه في اختيار الأغاني الصنعانية الرائعة، وكأن اليمنيين يخشون مغادرة صنعاء من ذاكرتهم بسبب سيطرة الحوثي عليها، فيتمسكون بها فناً يشاطرهم أوقاتهم.

الوصول..

بعد نحو ساعتين حطت رحالنا بالمخا، والوصول إليها يمنح الشخص انطباعاً أولياً بالألفة، لقد خيل لي وكأني زرت هذه المدينة منذ سنين مضت، لكن ما أثار دهشتي أنها بدت كبيرة عكس ما توقعتها كمدينة تمد أذرعها الواسعة حاضنة لمياه البحر بدفء.

أما سكانها فهم لا يختلفون كثيراً عن طباع سكان المدن الساحلية، إنهم ودودون ووجوههم تعلوها بسمة رفيعة، يا له من شعور يعبر عن صدق محبة السكان للزائرين، ويا لها من روعة عندما يبادرك أحدهم بالمصافحة عند أول لقاء يتم معه، لكأنّه تعبير يختزل مئات العبارات الدالة على طيبة هؤلاء السكان وتواضعهم.

ولدقائق معدودة خشيت أن أقع تحت وطأة الانطباعات الطفولية التي عادة ما تتشكل حول الأماكن الجديدة عند زيارتها، لكنّ أياً من ذلك لم يحدث، فالجو الاجتماعي القائم على البساطة والترحاب بالغرباء القادمين من مناطق أخرى يخلق شعوراً بالرغبة والمكوث هنا وقتاً أطول، بل وخوض غمار تجربة جديدة في هذه المدينة الساحلية الصغيرة.