قصته باكية.. وأجدني أدمع وانا أكتب قصته.. فما عرفته إلا بلقائين فقط في الساحل الغربي بعد أن فر بروحه المنهكة جراء السجن والتعذيب في معتقلات الحوثي، إنه صدام زياد، الشيخ والمدني وصاحب القلم الذي تنكب بندقيته.. سنبدأ:
تخيل أن تتعرض للتعذيب في سجون الكهنوت لسنة كاملة ثم يفرج عنك بعاهة في النفس، بمرض يؤرق خاطرك.. وتقرر الموت على احتمال ذلك الوجع المختلف، وتلقي بنفسك من النافذة.. تموت.. حدث هذا مع الشجاع الشيخ المقاتل الديسمبري صدام زياد الذي كان من أبطال ديسمبر وعانى السجون.. في استخبارات الكهنة.. لسنة كاملة.. وأفرج عنه وقد تحول إلى شخص آخر..
رغم العلاج ورغم كل شيء واهتمام المقاومة الوطنية، وسفره إلى خارج البلاد عاد لتكون مدينة عدن مثواه، قفز من أعلى.. نط إلى العالم الآخر ومن قذفته هي كرابيج الحوثي.
أشهر المعاناة
سنة من القساوة لقاها الرجل في المعتقل، يا للمعتقل الرهيب، وأجدني أتذكر رواية الساعة الخامسة والعشرين وأنا أحكي قصته فهذا صدام هو حكاية عما يحدث للمعتقلين.. لا يمكن أن تغادر السجن وقواك معك.. أجدني أحزن وأبكي مصيره فالموت أهون، وقد كان صدام يقول: ليتني مت في انتفاضة ديسمبر.. وليت هذه لم تجدِ معه.
فلا أقسى من أن يأخذ منك الكاهن كل شيء، وقد أخذ روحه وهو على قيد الحياة.. فهذا هو الاغتيال البطيء.. أن تموت بيد الكاهن وأنت في بعد عنه.. وهذه هي الجريمة الكاملة.. أو تدرون معنى الجريمة الكاملة؟ الجريمة الكاملة ليست القتل المباشر ببندقية بل إجبار روحك على نزع روحك، أن تعاني من فرط القساوة وتقرر الموت، وكان صدام زياد أحد ضحايا هذا النوع الأبليسي الوحشي.
صدام زياد هو نجل العميد الركن حسين صالح علي زياد الذي استشهد وعمه وشقيقه وابن عمه في الصالة الكبرى، وصدام هو المدني خريج قسم العلوم المالية والمصرفية الذي واجه الحوثي في انتفاضة ديسمبر مع الشهيد صالح، وأبت شجاعته _فيما تخلت شجاعة الناس_ عن التخلي وترك صالح يواجه مصيره لوحده.. أطلق بندقيته وقاتل إلى النهاية ووقع أسيراً لأربعة أشهر بيد الحوثي، عانى أمر وأقسى العذاب في الاستخبارات العسكرية، ثم أفرج عنه، وعاد إلى مسقط رأسه بقرية دار الحيد مديرية سنحان، وبايعته البلاد بالمشيخ فشعر المتحوث صاحب السطوة بخطر هذا الرجل، الذي حظي بمحبة الناس، ليُعاد إلى السجن وهذه المرة بشكل مختلف، مختلف.
أراد الحوثي هذه المرة وبجهد وإصرار كبيرين كسر هذه النفس أو كسبها فرفض أن يتحوث وكان يصيح بهم: أنا عفاشي.. وكلما صاح بهم كانوا يكيلون له أمر العذابات، شهر وشهر حتى ثمانية شهر وآخر..ثلاثة وأربعة..
ثمانية أشهر كاملة والرجل الشجاع صدام زياد في سجن أبو علي الحاكم ويشرف مدير مكتب الحاكم المدعو "أبو هاشم" على تعذيبه شخصياً لكسر إرادة الرجل، فلم ينكسر.
عانى ولم يخضع، في السجن كان أقوى من القيد والسوط والسجان وكانوا يسمعونه محاضرات سيدهم كي ينشطر وهو كان يقول: لم أسمعه، كانت خطابات الشهيد صالح ملء أذني تمنحني العزيمة وكلما خطر لي الضعف تذكرت ثبات وشجاعة الزعيم.. وكان يهزأ بهم كل الهزء.
السجين بإرادته الصلبة وبالانتماء الجمهوري هزم آسره.. هذه هي الأرواح العظيمة التي قرأناها في الحكاوي وفي الكتب، يا لعظمة صدام زياد.. له من الاسم شجاعة وزيادة على الشجاعة وزياد..
غادر صدام زياد السجن، غادر وروحه منهكة.. نفسيته ممزقة، يعاني ويكبت، صدام الشيخ والشجاع والمدني والذي لم يرضخ للكهنة حاول الاعتداد بنفسه وعدم الاعتراف أنه يعاني آثاره النفسية جراء التعذيب الوحشي الذي تعرض له والقوة المفرطة في مجابهة الكهنة وعذاباتهم أثرت به، عانى كثيراً دون أن يعترف، فالكبار يخفون أمراضهم، ولكن السجن كان مزرياً، وما لحقه من مضايقات واستفزازات دفعته للفرار إلى الساحل الغربي ليلتحق برفاقه في المقاومة الوطنية.. فكانوا له المكان والدواء.. عومل صدام زياد كشجعان الأزمنة النبيلة.. كنا جميعاً نزوره كمن يمتن لهذه البطولة.
قضي صدام زياد بالساحل وقتاً وحظي باهتمام قيادته ورفاقه، الذين افجعنا فيه مآله البائس، ورفض العروض الكثيرة من المقاومة للتفرغ والسفر والتطبب، كان يرفض، يقول لنفسه: لست مريضاً.
قرر صدام زياد الذهاب إلى القاهرة، رحلة استجمام تروح عنه المعاناة، استقر مع أسرته هناك لفترة، لكن المرض كان أقوى منه، وأثرت أعراضه على علاقته بأسرته وأطفاله، ودفعتهم نوباته للعودة وتركه هناك وحيدا.. وحيداً إلا من اعتداده بنفسه، وهي زاده.
ذهبت الأسرة، وعاد صدام زياد إلى العاصمة عدن، ليقضي فيها آخر أيامه بأحد الفنادق رفقة صديق له، قدم خصيصاً من صنعاء لإقناعة بالعلاج من مرضه، وشاركه الغرفة التي يقيم فيها للذود عنه من روحه وهواجسه، والمقاومة تتابع الأمر، أمر حالته.
وفي غبش كئيب، أردت روحه روحه، كان صديقه عائداً من المسجد المجاور للفندق بعد صلاة الفجر، شاهد مجموعة من الناس يحيطون بشيء، خطر بباله صدام، وشاهد بعينه الفاجعة: صدام رمى نفسه من نافذة غرفته في الدور الرابع إلى أسفل، اقترب منه فإذا هو صديقه صدام زياد.. بكاه كثيراً.. كانت صلاتي هي إنقاذ روح.. الصلاة ألا يتركه إلى المسجد، آنذاك تسقط عنه الجماعة.
وعاش صديقه لدقائق حالة من التأنيب والنكران الذي ترك المشهد، الماثل أمام عينيه، وصعد مسرعا لعله يجد صدام نائماً في الحجرة أو ربما ينهض من حلم، لكنها الحقيقة: مات صدام.
يا ترى من هو القاتل؟ أليس هو الحوثي الذي أخرجه من معتقله وقد شوه جسده وروحه، ومارس بحقه صنوف التضييق حتى دفعه لترك قريته ومنزله وأسرته وحياته، للنجاة من هذا الكابوس المر؟
نعم، هذه الجماعة الإرهابية التي سطت على البلاد وفعلت بها الأفاعيل، وقتلت أنبل الرجال، والشجعان، هي من قتلت صدام زياد مرتين
وثلاث، وتحاول اغتياله اليوم في عيون الناس بتلفيق قصص وحكايات لا علاقة لها به.. مات صدام عند أول يوم اعتقال، مات صدام بسبب السوط الذي كان يسلخ جلده، وليس صدام وحده، أغلب الذين غادروا معتقل الحوثي يغادرون بحالات نفسية صعبة، تتغير حياتهم، يجنون، يفقدون أمل البقاء، ففي هذه الصلة حالات وحالات لجأت للانتحار، رحماك يالله.
كان أمجد ما قام به صدام هو التضحية والفداء..
فهو ليس جندياً لكنه لبى دعوة صالح للانتفاضة.. حين خلع القادة والجند رتبهم وبزاتهم وفروا، ذهب صدام مدافعاً عن الجمهورية في ديسمبر وهو صاحب القلم، وهنا تتجلى عظمة الرجل والمشهد ونحتسبه شهيداً في انتفاضة ديسمبر وهو المقاتل، شاهد ومشهود.
الفاتحة لروحه.