في نهاية المقال الأخير عن اتفاق بكين قلت إن نجاحَ الصين في تحقيق الاتفاق بين قوتين إقليميتين في الجزيرة العربية والخليج يمثل حدثاً جيواستراتيجياً وجيوسياسياً ينبئ بميلاد موازين قوى صاعدة على المستوى العالمي، وكان هذا سبب ودوافع السعودية وإيران لإبرامه، لما لذلك من تداعيات في المنطقة والعالم.
الصعود السريع للصين في الساحة الدولية جعل الولايات المتحدة الأميركية تراها تمثل أكبر خطر ومنافس لها، وهو ما صرح به وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بقوله، في مايو (أيار) الماضي، إن الولايات المتحدة ترى في الصين أخطر تحدٍ طويل الأمد للنظام الدولي، وإنها تحاول إعادة تشكيل النظام الدولي بما تمتلكه من قوة اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية وتكنولوجية للقيام بذلك.
وعبّر عن المخاوف ذاتها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، في مقابلة مع صحيفة «صنداي تايمز»، في يونيو (حزيران) الماضي، بقوله إنه يجب على الغرب «إيجاد مكان» لأوكرانيا ومكان لروسيا «إذا كنا لا نريد أن تصبح روسيا موقعاً أمامياً للصين في أوروبا».
وأضاف في أحد توقعاته الاستباقية أنه من الضروري «الاعتراف بحقيقة أن أحداثاً كبيرة مقبلة في العلاقات بين الشرق الأوسط وآسيا من ناحية؛ وأوروبا والولايات المتحدة من ناحية أخرى».
وهنا يجب الاعتراف بأن وزير الخارجية المخضرم صدق في تنبؤاته وفي مخاوفه.
ففي الزيارة الأخيرة للرئيس الصيني إلى موسكو، أظهر الرئيسان الصيني والروسي متانة العلاقات بين البلدين، حيث قال الرئيس الصيني إنهما «وقّعا إعلاناً حول تعميق الشراكة الاستراتيجية، وإن العلاقات الثنائية تدخل حقبة جديدة»، فيما أشاد بوتين بالعلاقات الخاصة بين بكين وموسكو، التي تظهر وحدتهما في مواجهة الغربيين.
ومن حسن الطالع أن هناك تقاطعاً في المصالح بين الدولتين البارزتين إقليمياً؛ السعودية وإيران، مع القوتين الدوليتين الصين وروسيا.
ففي نطاق الحاجة إلى الطاقة النفطية من قبل الصين، فإن السعودية من خلال موقعها الجغرافي في جنوب البحر الأحمر، وإيران بقربها من مضيق هرمز، تؤمنان بمواقعهما الجيوستراتيجية انسياب النفط للصين؛ عماد تطورها الصناعي، حيث تستورد الصين من المملكة العربية السعودية وإيران أكثر من 40 في المائة من احتياجاتها من الطاقة.
كما أن وجود الدولتين في منظمة «أوبك بلس» يؤمن لروسيا الموارد المالية التي هي في أمس الحاجة إليها في مواجهة أعباء تمويل المجهود الحربي في أوكرانيا.
إضافة إلى ذلك؛ فإن أداة علاقات السعودية وإيران النقدية مع الصين وروسيا لا تستخدم الدولار، وإنما تتعامل كل من الدولتين؛ الصين وروسيا، بعملتها الوطنية، وهذا في حد ذاته يصب في نطاق بناء نظام دولي جديد، يحد من سطوة ونفوذ العملات الغربية الرئيسية من الدولار الأميركي إلى اليورو.
يختلف نهج بكين عن روسيا الاتحادية بتأكيدها الدائم في خطابها، وفي سياساتها، أنها من العالم الثالث.
وبذلك تكسب شعبية كبرى بين دول الجنوب.
وأكبر نموذج لذلك مبادرتها «الحزام والطريق» التي تتقاطع مع عدد من دول الشرق الأوسط وأخرى آسيوية.
الاستقرار والهدوء، وحل الصراعات والتوترات في منطقة الشرق الأوسط، من الأهداف الاستراتيجية التي حددتها لنفسها السياسة الصينية.
من هذا المنطلق، شهدت زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى الرياض، مطلع ديسمبر (كانون الأول)، عقد 3 قمم متتالية؛ قمة مع السعودية، تلتها قمة مع دول مجلس التعاون الخليجي، وقمة أخيرة مع دول أعضاء بجامعة الدول العربية.
وقد جمعت زيارة الرئيس الصيني للرياض بعدين؛ «جيو - اقتصادياً» و«جيو - سياسياً».
وبإعادة قراءة بيان القمة السعودية - الصينية، الذي صدر يوم الجمعة 9 ديسمبر 2022، تجلى بوضوح في الشأن الثنائي إلى التأكيد على أهمية مواصلة إعطاء الأولوية للعلاقات السعودية - الصينية في علاقاتهما الخارجية، ووضع نموذج من التعاون والتضامن والمنفعة المتبادلة والكسب المشترك للدول النامية... ودعم مصالحهما الجوهرية بثبات، ودعم كل جانب الجانب الآخر في الحفاظ على سيادته وسلامة أراضيه، وبذل جهود مشتركة في الدفاع عن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
وأكد الجانب السعودي مجدداً التزام مبدأ «الصين الواحدة»، وعبّر من جانبه الجانب الصيني «عن دعمه المملكة في الحفاظ على أمنها واستقرارها، وأكد معارضته بحزم أي تصرفات من شأنها التدخل في الشؤون الداخلية للمملكة العربية السعودية، ورفض أي هجمات تستهدف المدنيين والمنشآت المدنية والأراضي والمصالح السعودية».
وإذا كانت المبادئ التي وردت في البيان بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول مجرد تكرار مبادئ، وليست موجهةً لطرف ما، فإن الفقرات التالية للبيان من الجانب الصيني جاء فيها: «معارضتها بحزم... ورفض أي هجمات تستهدف... والمنشآت المدنية...» ومعروف إلى من هي موجهة الرسالة!
وهي جاءت في سياق تأكيد المملكة مبدأ «الصين الواحدة».
في المقابل، أكدت الصين معارضتها بحزم التدخل في الشؤون الداخلية للمملكة.
وتعرض البيان لأمرين يهمان السعودية والخليج، بل العالم كله، بإدراج فقرة في البيان بخصوص الشأن الإيراني للتأكيد على ضرورة تعزيز التعاون المشترك لضمان سلمية برنامج إيران النووي، ودعوة الجانبين إيران إلى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفي الشأن اليمني، أكد الجانبان دعمهما الكامل الجهود الرامية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية، وخصص البيان فقرة مطولة حول الأزمة اليمنية، استنتجت منها، في مقالي في هذه الصحيفة ( الشرق الأوسط) بعنوان «الرياض عاصمة إقليمية ودولية» الذي نشر بتاريخ 3 يناير (كانون الثاني) الماضي، القول بالحرف الواحد: «والصين بحكم علاقاتها الجيدة مع إيران تستطيع أن تضغط عليها للكف عن التدخل في الشأن اليمني والمنطقة بأجمعها.
هل بالإمكان تصور أن تخطو الصين هذه الخطوة، وتأخذ مبادرة في هذا الاتجاه، خصوصاً أن إيران لم تعد تثق كثيراً بإدارة بايدن، وبوعود الغرب في حل قضايا خلافية عدة بينهما؟».
ولم تجعل الصين المبادرة بين السعودية وإيران مجرد مبادرة، بل وضعت نفسها طرفاً ثالثاً.
بينما في مبادرتها في الأزمة الأوكرانية - الروسية لم تخطُ بعيداً.
ومن تداعيات الاتفاق ما حدث مؤخراً في جنيف حول تبادل الأسرى بين أطراف النزاع اليمني، والإفراج لأول مرة عن شخصيات بارزة، طالب بالإفراج عنها قرار مجلس الأمن الدولي برقم «2216» لسنة 2015؛ أي بعد نحو 8 سنوات يتم العمل بالقرار.
وأيضاً الأمر اللافت أنه منذ سنوات عدة يتم لأول مرة إعلان البدء بصوم شهر رمضان في اليوم نفسه في كل من صنعاء وعدن، بعكس السنوات السابقة.
* نقلا عن صحيفة الشّرق الأوسط