محمد العلائي
حقائق ينساها المهتمون الطارئون بالقضية الفلسطينية
معنوياً وأخلاقياً فلسطين قضية كل العرب، العرب قبل غيرهم.
هذا صحيح تماماً.
لكن عملياً -ومنذ خمسة عقود على الأقل- القضية بشكل مباشر هي قضية العربي الفلسطيني ابن الأرض، بل أصبحت كذلك حتى على صعيد الخطاب.
هذا هو الحال، لا يهم إن أحببناه أم كرهناه.
العروبة لغة وثقافة وتاريخ، لكنها ليست دولة.
والعرب شعوب في دول. وكل دولة محكومة بحدودها القُطرية وظروفها وسياستها، وقواعد الشرعية والحكم فيها مختلفة، ومعيار التقييم الأهم للسياسات والمواقف والأعمال يتمحور حول ما تصنعه الحكومة لمواطنيها في الداخل، ويلي ذلك من حيث الأهمية ما تصنعه لأجل قضايا خارج حدودها.
والعرب أيضاً، شعوباً وحكومات، إذ يدعمون الحق الفلسطيني، فإنهم يفعلون ذلك انطلاقاً من هذا الواقع السياسي ومقيدون بقيوده.
والمطلب الذي ينادون به هو أن تكون للفلسطينيين أيضاً دولتهم القُطرية المستقلة بذاتها، فلا أحد من العرب يفكر بضم فلسطين إلى كيان سياسي عربي موحد لا وجود له.
هذه الحقائق وغيرها مما سنذكره هي ما ينساه هذه الأيام المهتمون الطارئون بالقضية الفلسطينية!
في خمسينات وستينات القرن الماضي، كان الرئيس جمال عبد الناصر يرى أن الوحدة العربية طريق إلى تحرير فلسطين.
ومعنى هذا: طالما أن "التحرير" أمر يتعلق بالعرب كل العرب، كما كان يُطرح حينها، فلن يكون الحديث عنه ممكناً ومعقولاً إلا بعد توحيد العرب في دولة.
وهذا الكلام منطقياً صحيح ولا غبار عليه، حتى لو كان تحويله إلى واقع ليس بالأمر السهل، إلم يكن مستحيلاً.
بعد انفصال سوريا، بدأ خصوم ناصر يطرحون شعاراً بديلاً معكوساً لإحراجه والمزايدة عليه: تحرير فلسطين هو طريق الوحدة.
رداً على ذلك، التقى ناصر بوفد فلسطيني عام 1962م وتحدث بواقعية شديدة وصدق قائلاً:
"إن قضية فلسطين هي أصعب قضية في العالم ومن يقول لكم إنه وضع خططا لحلها إنما يخدعكم. من يقول لكم إن قضيتكم سهلة إنما يخدعكم".
ثم تابع بالقول: "ليس لدي خطة لتحرير فلسطين... بالنسبة لهذه القضايا يجب أن نعرف متى نقف ومتى نهجم ومتي ننسحب... لا يمكن أن ننسى فلسطين، ولا يمكن أن نتخلى عنها، ولا يمكن أيضاً أن نعالج قضية فلسطين بالطريقة التي عولجت بها سنة 1948 بالمزايدات والبعد عن المسؤولية".
لكن عبد الناصر لم يصمد كثيراً أمام حُمّى المزايدات التي كانت تحرجه أمام الجماهير بأولوية التحرير على التوحيد.
بعد سنوات تخلى ناصر عن نظرته القديمة المعقولة، واستجاب فجأة وبلا مقدمات لأطروحات خصومه "غير المعقولة" التي تقدم تحرير فلسطين على الوحدة، فكان كأنما وقع في الشرك، في فخ كبير كان يدرك عواقب الوقوع فيه.
بحسب محمد عابد الجابري، فقد كان لتلك الانعطافة الخطيرة في التفكير نتيجة أخطر تسببت في تورط عبد الناصر و"دول الطوق العربي" في حرب 1967م التي انتهت -كما نعرف- بهزيمة قاسية ومزلزلة.
لقد كانت انعطافة في الذهن فقط، بينما الواقع ظل على ما كان عليه قبلها.
ويذهب الجابري إلى أن الهزيمة سجلت نهاية النهاية لفكرة الوحدة العربية: "لقد كشفت عن أن الدول القُطرية العربية التي روجت لفكرة الوحدة العربية أكثر من غيرها لا تقل تمسكاً بكيانها القُطري، وبالتالي فهي لا تريد ولا تقبل التضحية بدولتها القُطرية من أجل تحرير فلسطين وتحقيق الوحدة"، (الجابري، "وجهة نظر حول إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر"، ص204).
من ثَمّ، وبما أن العرب دُول لا دولة، فإن القول بأن القضية الفلسطينية "قضية كل العرب" قول عديم المعنى من الناحية العملية (العسكرية والسياسية)،
إنه يعبر عن رغبة وعاطفة لا أكثر.
وما قلناه عن العرب ينطبق أيضاً وبالقدر نفسه على المسلمين من غير العرب،
أي أنهم دُول لا دولة.
بل إن موانع وحدة المسلمين في كيان هي أعظم من موانع وحدة العرب.
وفي ظل واقع سياسي دولتي قُطري متعدد، لن يكون هناك فرق يُذكر بين العمل لأجل القضية الفلسطينية تحت عنوان الفكرة العربية، أو العمل لأجلها تحت عنوان الفكرة التوحيدية الإسلامية الشاملة التي تضم المسلمين من الأقوام والشعوب الناطقة بلسان غير لسان العرب.
النتيجة واحدة.
والسبب أن العقدة في الحالتين واحدة؛ فهؤلاء وأولئك [العرب والعجم] محكومون اليوم باعتبارات الدولة الوطنية القُطرية المستقلة. الجميع ملتزم بواقع التجزئة السياسية المقنَّنة والمحددة وفقاً للقانون الدولي.
من المهم إدراك هذه المسألة الجوهرية.
كي لا يخدعنا أحد بأن العرب خانوا وتهاونوا فقط لمجرد كونهم عربا، فهذا الادعاء يخبئ تحته الوهم الكبير بأن "التحرير" و"النصر" و"التمكين" سيأتي فقط على يد مسلم من الشعوب والأقوام التي كان العربي القديم يسميهم "العجم"، خصوصاً الفُرس والتُرك.
لا ننسى كذلك أن المحور العربي الذي يُسمّى اليوم على سبيل اللمز بـ"محور الاعتدال" كان بالأمس هو محور "الممانعة".
أقصد الأمس الذي بدأ عام النكبة 1948م.
وقد قال أولئك الممانعون بالأمس ضد إسرائيل كل ما يقوله الممانعون الجدد اليوم، وفعلوا ضدها أكثر مئة مرة مما يفعل ممانعو اليوم، سياسةً وحرباً وتمويلاً منذ 1948م.
فمَن غيرهم كان يتحامى عن القضية الفلسطينية قبل ظهور الخميني وبعده بسنوات طويلة؟
ورغم أن "الممانع الجديد" لم ينجز -حتى الآن- شيئاً كبيراً وغير مسبوق لا لصالح القضية، ولا لصالح وطنه، إلا أنه لا يخجل أن يزهو ويتبجح كما لو أنه نبوخذنصر وقد انتهى لتوه من تخريب الهيكل واقتياد اليهود إلى السبي!
إن إسـرائيل بلية عظمى تفوق قدرة العرب وحدهم -بوضعهم الحالي- على مواجهتها والتغلب عليها، وهي التي تحظى بكل الرعاية من الأقوياء المتغلبين،
ولهذا قد يتوجب على العرب الانتظار طويلاً جداً حتى يكون العالم كله شريكاً لهم في الشعور بهذه البلية وشريكاً في تفكيكها.