بعد أن تمكنت جماعة "أنصار الله" الحوثية من السيطرة على العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر (أيلول) 2014، ارتفعت الأصوات وزاد الجدل حول إمكانية استمرارية حياة وروح فكرة الجمهورية والنظام الجمهوري الذي ناضل من أجله قادة كبار منذ ثلاثينيات القرن الـ20، واليوم تساور الكثيرين الشكوك حول إمكانية نسف الفكرة وهدم النظام معاً.
الواقع أن فكرة الجمهورية ليست في خطر يستدعي هذا الهلع الذي ينتشر عند الكثيرين، وفي المقابل فالحقيقة أن النظام الجمهوري هو الذي يعاني أخطار انحسار ثقة الناس في مدى قدرته على التصدي لمحاولات بائسة تسعى لإفراغ وإساءة استغلال المحتوى مع الإبقاء على الشعارات، وهذا ينسحب على السلطتين الحاكمتين في عدن وصنعاء لأنهما فشلتا في إقناع الناس أنهما تمارسان عملياً محتوى الفكرة والنظام الجمهوريين.
السلطة في صنعاء تمكنت من فرض سيطرة تتلاءم مع قناعاتها في فكرة وطريقة الحكم بعيدة من جوهر "الجمهورية"، وهي تدعو مواربة وتعمل علانية على ترسيخ فكرة الإمامة والإسراع في تثبيت أسسها، ولكن ما يبدو جلياً هو أنها (أقصد جماعة أنصار الله الحوثية) لا تدرك أن إعادة صياغة الوعي الاجتماعي والسياسي والوطني مسار طويل لا يمكن إنجازه قسراً من دون توافق وطني وشعبي هو في غالبيته الساحقة متشبث بالفكرة والنظام، لأنه يجد فيهما الخلاص من إرث قديم في الحكم لم يكن محل إجماع وطني بل على النقيض من ذلك، فقد جاءت الثورة في 1962 لتضع حداً نظرياً لفكرة الإمامة في ذهن وروح معظم اليمنيين.
لم يكن الخلاف الوطني مع الإمام حول مسمى النظام فقط، وإنما لطريقة الحكم المتحجرة وجموده وعزل البلاد عن محيطيها القريب والبعيد، وحين قفز العسكر في العالم العربي إلى الحكم بحجة إقامة الجمهوريات، ظنت الشعوب أنها ابتعدت من المسمى والمضمون السابقين، ولكنهم (أي العسكر) حولوها إلى أنظمة فردية في بعضها، ووراثية في بعض آخر، وسعى البعض إلى حصرها في طائفة، أو عرق، أو قبيلة، أو أسرة.
لقد ترسخت فكرة الجمهورية في أعماق الوعي الجمعي اليمني، لكن النظام الجمهوري لم يتمكن من تقديم النموذج الذي يتمناه ويرتضيه المواطنون الذين دافعوا عنه وجاهدوا لإنقاذه من الضربات الداخلية والخارجية التي انهالت عليه والرياح العاتية التي عصفت به، وهذا لا يعني أن النموذج الذي عرضته وقدمته ومارسته جماعة "أنصار الله" الحوثية خلال الأعوام العشرة الماضية (2014 – 2024) مقبول أو قابل للحياة، فهي تسير غير مدركة أن الأجيال التي عاشت فترة الإمامة قد ناضلت وانتظرت طويلاً للخروج من قيود تلك المرحلة، كما أن الأجيال التي عاشت ما بعد الإمامة لم يعد من الممكن إعادة صناعة وعيها النقيض والخصم لحكم الأئمة.
يغيب عن الكثيرين أن فكرة الصراع على مسمى الجمهورية أخذت حيزاً مهماً من المفاوضات بين صنعاء والرياض للتوصل إلى إنهاء الحرب الأهلية (1962 – 1970) والتمهيد لعملية المصالحة الوطنية، وكان من ضمن الأفكار التي وضعت على الطاولة هي تغيير مسمى "الجمهورية" إلى "دولة" اليمن أو دولة اليمن الإسلامية، ولكن كل القيادات الجمهورية حينها مع اختلاف رؤيتها عما بعد المصالحة، رفضت الطرح واعتبرته أمراً لا يمكن مناقشته أصلاً، إذ اعتبروا الفكرة نكوصاً على نضالاتهم والدماء التي سفكت من أجل تحويل الفكرة إلى واقع.
لا يرتبط الخوف من سقوط النظام في 21 سبتمبر 2014 باستيلاء "الجماعة" على العاصمة والمناطق الواقعة في نطاق جغرافيا اليمن الشمالي، إنما بسبب ما برهنه ذلك اليوم عن ضعف مؤسسات النظام الجمهوري أو إضعافها المتعمد واستبدالها بمؤسسات موازية بعيدة من المحاسبة والرقابة، والشاهد الفاضح على ذلك ما يدور في ما يسمي بـ"المناطق المحررة"، فالكل يعلم أنه على رغم أن أغلبها يرفع شعار الجمهورية وعلمها، إلا أن ممارسات المسؤولين فيها بعيدة كل البعد من فكرة الجمهورية وقيمها وأبعادها الوطنية.
وفي حين تتخلى "الجماعة" تدريجاً وبمنهجية منضبطة عن الجمهورية كفكرة وكنظام، فإن السلطة في عدن غير قادرة على ممارسة قواعد النظام الجمهوري، وعجزت سياسياً وإدارياً عن خلق نموذج يرغب الناس في أن يحكمهم، وليس كافياً الحديث الممل الذي تردده وسائل الإعلام الرسمية عن أخطار عودة الحكم الإمامي من دون إيجاد البديل الفعلي على الأرض الذي يمكن أن يحميهم ويحافظ على كرامتهم وكرامة البلاد.
إن الحديث عن إنقاذ النظام الجمهوري يجب ألا يختلط بالحديث عن خشية ضياع الفكرة لأنها راسخة في عقول ونفوس اليمنيين، وهكذا يجب على الخائفين من انهيار النظام الجمهوري العمل على تصويب مساراته وانتقاد أخطائه والكشف عن فساد القائمين عليه، ومن دون هذا ستبقى الفكرة حية وسيبقى النظام عرضة للمزيد من الإنهاك وسيحدث اللبس والخلط عند الناس بين الفكرة والنظام.
إن جوهر فكرة الجمهورية هي أن كل المواطنين شركاء متساوون في الحقوق والواجبات مهما اختلفت الرؤى، وحين يتحقق ذلك سيكون النظام الجمهوري آمناً من الاهتزازات والنكوص عن مبادئه، وعلى "الجماعة" أن تعي أن ما تفعله خارج الحدود لا ولن يسدل الستار على ما أنتجته أفعالها من الأحقاد ورغبات الانتقام في الداخل، والذكي من اعتبر بغيره.
فكرة الجمهورية غير قابلة للتهديد ولا التغييب ولا الزوال ولا حتى المراجعة، ولكن ما يحتاج إلى نقاش واسع جاد وعقلاني بعيداً من الشطط والمزايدات، هو الحديث عن أسباب الفشل الذي أدى إلى هذا التراجع والخوف على الجمهورية كنظام للحكم.
* نقلا عن "إندبندنت عربية"