حتى كبار الوعاظ الذين يحدثون عن تحري ليلة القدر في العشر الأواخر، وفي الليالي الفردية، من شهر رمضان، يؤمنون في قرارة أنفسهم أنها ليلة 27 رمضان.. لكن الأمر كان مختلفا بالنسبة لـ"دحّان العُزيق" هذا العام.
فبعد أحاديث ومواعظ كثيرة سمعها، غيّر الرجل الأمّي، الذي يسكن طول عمره ريف ماوية، قناعته التي كانت سائدة عن ليلة القدر.
أدرك يقيناً أن الليلة العظيمة المباركة التي أمضى عُمُراً يتحرّاها ليلة 27 رمضان دون جدوى، أنها لا تأتي في ذلك التاريخ الذي يتحرّاها جميع الناس فيه.. اقتنع أكثر أنها ليلة لا "تعشق" الزحمة والأيام والليالي المعلومة، ليلة تأتي بهدوء وسكينة وتلامس قلوبا وديعة تترقبها بإخلاص لتظفر بخيرها.. وعلى الأغلب ليست ليلة 27.
قرر الرجل أن يتفرغ لها طيلة أيام وليالي العشر الأواخر، بعدما "تفقّه" كثيرا من أحاديث ومواعظ خلص إلى أنها إحدى الليالي العشر الأخيرة، وخصوصا الوترية منها.. ولِتحظَى بتلك الليلة يقيناً؛ سيتوجب عليك أن تعتكف في المسجد، لتضمن أنها لن تفلت من قبضتك..
هي ليلة خير من ألف شهر.. ستحوز الدنيا وتضمن الآخرة يا دحّان..
"تفقّه" كثيرا في سماتها، سماءٌ صافية، طقسٌ معتدلٌ، ليس بالحار ولا بالبارد سواء صادف رمضان الصيف او الشتاء، تنبلج عنها شمسٌ هادئة وديعة، ولذيذة.. دون شعاع.. وحتى كلاب القرية المزعجة التي تقضّ مضجعه نباحاً وعواءً وتنهكه بملاحقتها وشتمها أغلب أيام السنة، ستصمت تلك الليلة احتراماً وتقديساً.. ثمّ أمور أخرى وجدانية، طمأنينة، سكينة، إحساسٌ داخلي بها.. سيترصد لها طيلة العشر الأواخر، معتكفاً في المسجد، وسيدرك سماتها الوجدانية والطبيعية.. حتما لن يفوتها هذا العام، ستكون رزقه الموعود الذي طال انتظاره.. إنها أملُه ومستقبل أولاده.
ولأول مرة في حياته قرر "النحال"، راعي الغنم الأربعيني، صاحب الكبرياء، عزيز النفس، كثير الجدل، الذي يغطي قهره بالمزاح، أن يعتكف ناذرا غنمه ونحله لأولاده اليافعين، طمعاً في حيازة ليلة القدر، ودعاءٍ مستجاب، وأملاً برزقٍ يغرفه من بحر جود الله، عوضاً عن الصبر على الفتات الذي يجنيه بعد طول عناء، تجميعاً من قطرات رحيق تجنيه مئات آلاف النحل التي سخرها الله له، أو صبراً على تربية الجِداء لأشهرٍ حتى تثمن، لكنها، وعلى حظه العاثر غالباً، تباع في مواسمها المزدهرة، بثمن بخس..
ليلة القدر في مخيلته هي ليلة رزق مع طول عمر، وراحة بال، ومالٌ وبنون، بعيداً عن كَدَحِه المضني.. بالتأكيد، سيدعو الله، بغفران الذنوب، كطلب ثانوي، في الهامش، لكنه لا يُلحّ عليه فيه، إذ يرى أنه لم يحمل ذنوباً قط في حياته. بل إنه يرى عمله الشاق المضني، وسعيه وراء الرزق الحلال بهذه الطريقة، تكفيراً لذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر..
ليس ذلك فحسب؛ بل إنه يعتقد -ولديه ما يستشهد به في ذلك- أن قيامه بالصلوات في الشّعَاب والجبال، والوديان؛ وحيداً لا يراه إلا الله، وحفاظه على صيامه من قطرة ماء يبلل بها لسانه إذ تلتصق بحَنَكِه، وهو ينادي غنمه بأسماءٍ تفهمها جيداً، في ظهيرة أيام آذار القيض والحرّ؛ لا بل إنه كان، يتورع، من شدة نزاهته وحرصه وتقوى ربه، عن المضمضة لترطيب فمه، خشية أن يؤثر ذلك على مقصد صيامه وإخلاصه؛ وهو يرى ذلك ذروة الإخلاص والعمل الصالح الذي لن يُعاقب على ما دونه ولو بلغت ذنوبه عنان السماء، وما عساها تكون تلك الذنوب أساساً.. هو لا يتذكر شيئاً يؤنبه عليه ضميره المخلص النقي.
كان يثق برحمة الله في الآخرة ويدرك أن ربه عند حسنِ ظن عبده به.. وهو يظن بربه أنه لن يعاقبه.. هكذا كانت عقيدته الراسخة..
لكن ليلة القدر غدت أمله الوحيد في الرزق الواسع الوفير، في منتصف عمره المفترض، بعد منتصف سن الرشد، بدون هذا التشظي في الجبال والشعاب والوديان، وانهاك رئتيه برائحة دخان "الصردد" مخلفات الحيوان المتيبسة التي يشعلها، حين يتفقد خلايا النحل، لتفوح منها رائحةٌ كريهة تطرد النوب ليتسنى له ملاحظة امتلائها بالعسل فقطعها، بحثا عن بضع "شبكات" عسل مختمة، يمزها إلى "قارورة" زجاجية، ليبيعها بقيمة كيس دقيق وعلبة زيت و10 كيلو سكر وقرطاس شاهي.
كانت عيناه تدمعان، إذ يقطع شبكات العسل من الخلايا، وإذا سُئل، يخبرهم أن ابنه أعطاه "صردد" طافح سام من مخلفات بقرة الحجة قرطلة "المتم" التي يؤمن أن دخان "ضَفْعِها" المتيبس يخنق أكثر من غيره 10 مرات..
وفي قرارة نفسه؛ كان يعترف أن دمعه نزل هذه المرة لسبب آخر غير الدخان، إذ كلما أخرج شبكة عسل "مطلوسة"، ووضعها في الوعاء، فكر باليوم الذي سيسمح لنفسه وأولاده بالتهامها دون أن يحاصر نفسه وإياهم حرصا على قيمة الغذاء بما هو الحياة لهم.. كان يتخيل اليوم الذي سيبقيه لضيوفه دون أن يفكر بكسوة العيد و"سبار" رمضان.. كان يتخيل، وهو العارف بأنواع العسل، متى سيأتيه العسل معباً أو في قطع الشبك، ليشتريه كما يشتري منه الميسورون.. كان هذا التفكير ينهكه حدّ البكاء الذي يتخيله دماً يعبر عن قلبه المقهور.
وكان، لكبريائه، يقنع الناس حين يمازحونه بأنه لا يأكل عسله، بأن "النّحّالة" وأولادهم لا يطيقون أكل العسل لأنهم أكلوا منه حد القناعة بقية حياتهم..
في الحقيقة لم يكن يحرم أولاده، وزوجته المتذمرة من نحلٍ بلا عسل، وأغنامٍ بلا لحم، بشكل مطلق، بل كان يعطيهم كلما تيسر له الأمر، دون حد القناعة التي يواسي بها بؤسه وكرامته.
حزم بطانيته ومخدته وما يحتاج، كشاف يدوي، ودبّة ماء "مشمّل" ومصحف صغير بالخط القديم الذي قرأه وتعلمه في طفولته عند الفقيه، ولا يجيد قراءة ما سوى القرآن أساسا، وبغير المصحف ذي الخط القديم.
أوصى أهله بأن يحضروا له ما تيسر من زاد، إفطارا وسحورا مع جموع المعتكفين.. وها إنه حلّ فيه لأول مرةٍ معتكفاً منذ عرف الحياة قبل 45 عاماً..
حلّت أول ليلةٍ على الرجل، إنها ليلة فردية، وهو لم يفسد مزاجه بكثرة القات، إذ لا "يخزن" سوى بالقليل كعادة الرعيان، ومع الليالي الروحانية لم يأخذ سوى أقل من نصف ذلك القليل بما يعينه على السهر والقيام والتهجد.. والدعاء.. وطلب الرزق.. هي أيام وليال وبعدها "اقترب الوعد الحق"..
من صفحة الكاتب على الفيسبوك