لـ ابن خلدون رأي معروف جرى مجرى القاعدة وهو أن "المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".
لكن طه حسين في سجال مع العقاد عام 1929م يخالف هذه القاعدة الخلدونية، دون أن يذكرها أو يذكر ابن خلدون، ويستدل على نقضها بأمثلة من التاريخ.
وقد بدأ السجال بمقالة للعقاد عنوانها "التعارف بين الشعوب" معلقاً فيها على ظاهرة انتشار الترجمة المتبادلة بعد الحرب العالمية الأولى بين الألمان والإنجليز، وقبل ذلك بين الإنجليز والفرنسيين، ورغبة كل أمة من هذه الأمم في سبر الأمة المنافسة واستطلاع أحوالها وأخلاقها وآراءها.
كان العقاد يرى في الحرب والتنافس حافزاً قوياً من حوافز المعرفة والاستطلاع بين الشعوب المتحاربة، والترجمة وسيلة من وسائل ذلك التعارف والاستطلاع، ولم يقل أن الحرب والتنافس الحافز الوحيد.
أما طه حسين فقد خالفه وقال إن العلة لكل ترجمة ونقل هي الطبيعة الإنسانية، وليس التنافس والحروب، مشككاً في قاعدة ابن خلدون التي تقول بأن المغلوب يأخذ عن الغالب.
وفي معرض تعليله للظاهرة، ظاهرة انتشار الترجمة بين الحربين، نجد ما يشي بانحياز العقاد إلى قاعدة ابن خلدون التي تقول بولع المغلوب بتقليد الغالب، ولكن أيضاً دون أن يذكر هذه القاعدة أو يذكر ابن خلدون، فهو يقول إن حركة الترجمة في أوروبا بين الحربين "ظاهرة مطردة ولكنها لا تدعو إلى العجب، ولا يصعب تعليلها بالمعهود في طبائع الناس فأول ما يعنى به المرء أن يستطلع أحوال منافسه ومن يتطلب الغلبة عليه، والمغلوب في المنافسة أشد عناية بهذا وأصدق رغبة في اختبار أسباب القوة التي انتصرت عليه؛ ومن ثم كانت المترجمات الإنجليزية في العصر الحاضر أكثر من المترجمات الألمانية، وكانت الأمم التي تشك في حقيقة انتصارها تجري على حكم الأمم المهزومة في استطلاع أحوال المنافسين لها؛ لأنها لا تشعر بطمأنينة المنتصر ولا تزال في حالة القلق والحذر التي تخامر مهزومًا يعالج من نفسه موضع الهزيمة".
ثم يتساءل: "أهي المعرفة بنت العداوة، كما يبدو لنا من هذه الأمثلة التي يعززها المعهود من طبائع الناس؟ أم هي المعرفة بنت المحبة، كما جاء في المثل القديم، وتقرر في الآداب الرفيعة، ومحاسن الأخلاق المأثورة عن الوعاظ والمرشدين".
ويعرض الرأيين؛ ذاك الذي يقول إن الشعوب كالأفراد تتعارف أكثر إذا نشب بينها الاختلاف والعداء، وذاك الذي يقول العكس أن التعارف وليد الاتفاق والمودة.
ثم يوفق بينهما ولا يعترف أن بينهما اختلافا:
"إنك بالعداوة تسبر قوة غيرك الجائرة التي تدور على الأثرة وحصر الخير في النفس دون المنافسين والمزاحمين".
وإنك بالمحبة تسبر قوة غيرك العاطفة التي تتسع وتعلو على قيود الأثرة والحصر، وتنظر إلى الأشياء من غير الناحية التي تدور عليها المنافسات والمخاصمات، وكلا المسبارين لازم ضروري لعرفان الإنسان بالإنسان، وحكم الحي على طبيعة الحياة.
وخلاصة رأية كان أن "الترجمة تكثر بعد الحروب بين الأمم المتحاربة؛ لعناية كل أمة منها باستطلاع أحوال الأمم الأخرى، واستقصاء ما عندها من بواعث النصر والهزيمة".
والحقيقة أن العقاد لا يثير مسألة واحدة، بل مسألتين: التعارف والتواصل المتكافىء بين الشعوب، والمسألة الثانية هي أن المغلوب أكثر عناية بالتعرف على الغالب واستكشاف أسباب غلبته، والنتيجة حتى لو لم يصرح بها العقاد هي أن المغلوب يقلد الغالب، وينتحل صفاته وأخلاقه وثقافته.
وفي رد طه حسين على مقالة العقاد، نقرأ التالي: "أما أنا فألاحظ قبل كل شيء أن العلة الحقيقية الأولى لكل ترجمة ونقل، إنما هي الطبيعة الإنسانية التي تجعل الإنسان حيوانًا اجتماعيًّا كما يقول أرستطاليس في السياسة، وحيوانًا مفكرًا كما يقول أرستطاليس في المنطق، فطبيعته الاجتماعية تضطره إلى أن يتصل بغيره من الأفراد والجماعات، ويشاركهم فيما يفكرون ويشعرون ويتحدثون، وطبيعته المفكرة تضطره إلى أن يبحث ويستقصي ويتعرف حقائق الأشياء".
وهكذا، فليس للعداء ولا للحب دور في الاتصال والتأثير والتأثر، وإنما العلة كامنة في الطبيعة الإنسانية، حسب طه حسين، ثم يستعين بأمثلة من التاريخ لإبطال مقولة ابن خلدون: "من المحقق أيضًا أن العرب انتصروا على الفرس وعلى اليونان البيزنطيين بعد ظهور الإسلام، كما انتصروا على أمم أخرى، فنقل العرب عن الفرس واليونان كل شيء، ولم ينقل الفرس واليونان عن العرب شيئًا".
ثم يقول: "من غريب الأمر أن هذه النهضة الفارسية التي ظهر فيها تأثر الفرس بالعرب لم تكن حين كان العرب غالبين والفرس مغلوبين، وإنما كانت حين تم الفوز للفرس على العرب، وظفروا بالسلطان السياسي كله في الشرق الإسلامي، فكيف يعلل الأستاذ العقاد هذه الترجمة، بالحب ثم بالبغض، أم بالتنافس والجهاد؟".
وجاء في رد العقاد على تعقيب طه حسين: "أما لماذا أخذ الرومان عن اليونان، ولم يأخذ اليونان عن الرومان، فنحسب أن تعليله يسير، وهو أن التبادل بينهما في بداية الأمر على الأقل كان غير مستطاع.
فالرومان وجدوا فلسفة وأدبًا مستفيضًا عند اليونان، فأخذوا ما وجدوه ولم يأخذوه إلا بعد أن نشبت بينهما نواشب التغالب والاحتكاك.
واليونان لم يجدوا عند الرومان إلا فنونهم التي امتازوا بها، وهي فنون الحرب والنظام والقوانين، وليست هذه الفنون من شأن الأمم المغلوبة؛ لأن مسألة الحكومة والجيش تظل في أيدي الغالبين لا ينزلون عنها لتلك الأمم مختارين.
على أن اليونان أخذوا من الرومان ترفهم وحضارتهم، ثم أخذوا منهم بعد ذلك نظامهم وقوانينهم، حين أصبح لهم نوع من الاستقلال في الدولة البيزنطية، أو حين أصبحت بيزنطة دولة اسمها للرومان وحقيقتها لليونان".
والقارىء لا يدري لمن يقضي!
فالتغالب حافز للتعارف بين الأمم وهذا صحيح، وهو قول العقاد، وتقليد المغلوب للغالب قاعدة تصح حيناً وتخطىء حيناً، وهنا لا يسعك التسليم بهذه القاعدة دون تحفظ، رغم أن الأمثلة التي ساقها طه حسين قوية إلا أن العقاد لم يحر جواباً ومخرجاً فالفُرس المغلوبون أخذوا الدين عن العرب، واليونانيون المغلوبون الذين صاروا فيما بعد بيزنطة أخذوا عن الرومان الغالبين الفنون والأساليب الحسية الفخمة في الحياة والعمارة وأخذوا منهم نظامهم وقوانينهم مثلما أخذ الرومان عنهم الفلسفة والفكر.