ببساطة شديدة تقلد علي عبدالله صالح رئاسة البلاد في ظروف استثنائية أثبت فيها شجاعة منقطعة النظير وحكمة نادرة وقدرات عكست شخصيته
وذكاءه الحاد وهو القادم من بلاد عاشت ظلام الإمامة وبؤسها بكل تفاصيلها.
تربى صالح وسط قبيلة حميرية أصيلة وأسرة بسيطة متواضعة وجغرافية قاسية وخصبة لها مكانتها التاريخية ومحيط امتهن زراعة الأرض واعتمد على المواشي كمصدر من مصادر استمرار العيش، وتعليمٍ لا يكاد يذكر في بدايات عمره، ومع ذلك قادته الأحلام ودفعت به الأقدار والمعاناة إلى خوض مغامرة الحياة في مرحلة عصيبة جداً ولم يستسلم يوماً لهذا الواقع الذي كان يدرك تماماً أنه قادر على تغييره طالما أن الله منحه الصحة ومده بالعمر وخصه بالحكمة والدهاء.
تدرّج في الرتب العسكرية وتنقل بين أهم مناطق البلاد أخذ من ثقافتها ونهل من معارفها وخبر تضاريسها وعرف طباعها وأكل وشرب وترعرع ليصل إلى أماكن كان يراها مجرد خطوات لمشوار طويل لا يمكن أن يتوقف، تحدى الخطوب واستلم زمام دولة مضطربة يتساقط فيها رؤوس الرؤساء كالفراش.
في اللحظة التي اعتذر فيها الجميع عن استلام الرئاسة قال أنا لها، وأنا ربان السفينة، الحياة والممات بين يدي الديان الذي لا يموت، بدأ المشوار بقدرات عجيبة واحتوى كل الأحداث وواجه الخطوب وأصحاب الأفكار البالية بحس كبير وفطنة جُبل عليها منذ صغره فكان بارعاً في السياسة والإدارة صاحب قرار ومخلصاً في عمله.
لذا يمكن أن نقرأ الرئيس الشهيد صالح عبر مسارين: الأول سياسي والثاني اجتماعي وكلاهما متلازم تماماً، استطاع من خلالهما التوفيق بين حياة الناس وكل ما جُبلوا عليه وتعارفت عليه البنية القبلية، وبين السياسة كأداة مهمة للانفتاح على العالم وبناء دولة حديثة يعمها الخير ومشاريع التنمية في كل مجالات الحياة.
كان في الداخل شخصاً بسيطاً رغم منصبه والتزاماته كرئيس دولة، وفي الخارج ملتزماً بالبروتوكولات يحفظها عن ظهر قلب، رافعاً رأسه شامخاً صاحب ود وكرم، حسن المظهر بهي الطلعة، يمثل نفسه وشعبه ويحافظ على مواطنيه.
أما خطاباته فقد كان صالح شخصاً تلقائياً يرتجل خطبه وتصريحاته ومقابلاته، يُحضر بشكل جيد معتمداً على فطنته وذاكرته، جريء لا يتصنع، وشجاع يعرف من يستحق الاحترام ومن لا يستحق من محيطه الذي يتعامل معه.
ربى أولاده وأسرته تربية طيبة، كان حريصاً كل الحرص في هذا الجانب وقد أعلن هو ذلك بكل فخر واعتزاز، كان لا يجرؤ أحد من أولاده أو أحفاده أن يتطاول أو يخرج عن اللياقة والأدب، لأنه يعي ويعرف بأنه ابن رئيس ولو حدث وتجاوز حدوده سيتعرض للتأديب.
عرفنا أولاده وهم في سجون مليشيا الحوثي باستثناء نجله الأكبر وسمعنا عنهم كل خير لم نرَ أحداً منهم يستعرض على المواطنين أو يعتدي على المارة بأي شكل، وهذه ثمرة تربية حسنة، لأن صالح كان يدرك بأنه لو انشغل عن تربية أبنائه يعني أنه لا يستحق أن يكون أباً ولا رئيساً لأكثر من ثلاثين مليون نسمة.
تحمل الرئيس صالح في حياته الكثير من القضايا التي كانت بمثابة اختبار لكنه استطاع تجاوزها وعمل على ردم العديد من الحفر التي حفرت والعقبات التي ظهرت والظروف التي كانت تفوق قدرات شخص لا يملك عصا سحرية، لكنه مع كل ذلك ذلل الصعاب واجتهد حتى يصل إلى قمة المجد.
قاد السياسة كما قدر لها أن تكون، افتتح المشاريع التي لا تحصى ولا تقارن وكان الباقي في الطريق فأنكر عليه أصحاب الحداثة والمشتركات البائسة كل ذلك، قتلته الفئة الباغية، نهبت منازله وممتلكاته الخاصة ومتحفه الشخصي الذي يعني الكثير لليمن واليمنيين وتاريخ البلاد وكان مقره ملاصقاً للجامع مكان عبادة ولم تراع أي حرمة.
قصف الطيران منازله ومزارعه، قُتل رفاقه في الصالة الكبرى وعبر الاغتيالات، دمرت المؤسسات أمام عينيه، حاربوه بالكراهية والحقد والتضليل وتحريف الأفكار والتهم والأحداث وتجيير الواقع كما تشاء مصالحهم، وتوسعت دائرة الفساد والمحسوبية والتفريط بالمبادئ والقيم والثوابت وحتى بالسيادة.
لم يكن 17 يوليو يوماً عادياً، كان مختلفاً عن كل الأيام مَدَّنا بشخصية امتلكت من الكاريزما ما لم يمتلكه أحد
خلال عقود ماضية وعقود لاحقة فقدنا البوصلة فقط لمجرد رحيله عن السلطة ليس لأننا لم نجد غيره وإنما لأن الأدوات والأفكار التي واجهته في حياته ومماته كانت فاسدة سياسياً وقاصرة اجتماعياً وغير قادرة على تجاوز أفكارها وعُقدها التي تجذرت في النفوس.