محمد الصالحين الهوني

محمد الصالحين الهوني

تابعنى على

من سيملأ الفراغ الذي سيخلفه الحوثيون؟

منذ 37 دقيقة

فجأة، تجد طهران نفسها مضطرة إلى الاعتراف، ولو على مضض، بأن أحد أهم أذرعها الإقليمية قد انفلت من عقاله. لم يعد الحوثيون في اليمن مجرد وكلاء مطيعين ينفذون الأجندة الإيرانية بدقة، بل تحولوا إلى قوة سياسية وعسكرية تتخذ قراراتها بناءً على حسابات محلية بحتة، حتى لو تعارضت مع توجيهات “الولي الفقيه”.

هذا التمرد الصامت، الذي تجلى بوضوح في رفضهم وقف إطلاق النار في غزة رغم الضغوط الإيرانية المتكررة، ليس حدثا عابرا أو نزوة تكتيكية. إنه أول إعلان علني عن وفاة النموذج الذي راهنت عليه الجمهورية الإسلامية طيلة أربعة عقود: نموذج “الوكيل المخلص” القادر على حمل السلاح نيابة عن طهران دون أي اعتراض أو سؤال.

منذ عامين فقط لم تكن إيران تتخيل أن تواجه هذا المصير، والغريب أنها بدلا من تقبّل الأمر الواقع تصر على تجاهل الحقيقة وتدفن رأسها في الرمال بانتظار مرور العاصفة، التي لن تمر.

ما يحدث في صنعاء ليس معزولا، بل هو حلقة في سلسلة تصدعات تمتد من بيروت إلى بغداد فغزة. في لبنان، يرزح حزب الله تحت وطأة اغتيالات ممنهجة أفقدته عشرات القادة الميدانيين، وأجبرته على إعادة تقييم كاملة لإستراتيجيته، حتى بات يتجنب الردود الكبرى خوفا من انهيار ما تبقى من بنيته. في غزة، تجد حماس نفسها محاصرة من كل الجهات، مفصولة جغرافيّا عن داعميها، ومُرغمة على قبول شروط لا تُرضي طهران ولا “محورها”. أما في العراق، فإن فصائل “الحشد الشعبي” التي كانت تتباهى بولائها المطلق لخامنئي، بدأت تتصرف بانتقائية واضحة، تارة تهدد واشنطن وتارة أخرى تتفاوض معها سرا، وتارة ثالثة تتقاتل فيما بينها على النفوذ والموارد.

كل هذه المشاهد تؤكد حقيقة واحدة: البنية التي شُيّدت بعناية على مدى عقود، والتي سُمّيت بـ”محور المقاومة”، تعاني اليوم من ضعف جوهري في أساسها، ضعف يتمثل في غياب الثقة المتبادلة بين “المركز” في طهران و”الأطراف” في عواصم عربية.

على المستوى الدولي، يبدو المشهد وكأنه مسرحٌ أُعدّ مسبقا لتصفية الحسابات. الولايات المتحدة، بعد سنوات من التردد، وجدت في هذا التصدع الداخلي فرصة ذهبية لإعادة ترتيب أوراقها في المنطقة دون الحاجة إلى حروب شاملة. أما إسرائيل، فتحولت من موقع الدفاع المزمن إلى الهجوم الاستباقي المنظم، مستفيدة من تفكك الجبهة الموحدة التي كانت تواجهها يوما. والحرب في غزة، مهما طال أمدها، لن تعيد بناء “محور” تحطمت حلقاته الواحدة تلو الأخرى. وسقوط نظام بشار الأسد في دمشق -وهو الحدث الأكثر إيلاما لطهران منذ عقود- قطع آخر شريان حيوي كان يربط إيران بلبنان عبر الأراضي السورية. الخريطة الجيوسياسية يُعاد رسمها اليوم بسرعة لم تشهدها المنطقة منذ اتفاقية سايكس بيكو، واللافت أن إيران، لأول مرة، ليست هي من يمسك القلم.

في هذا السياق، يبرز اليمن كنموذج صادم. كان الحوثيون مجرد حركة محلية محدودة النفوذ، ثم تحولوا بفضل الدعم الإيراني إلى شبه دولة تسيطر على العاصمة وتهدد الملاحة الدولية. لكنهم اليوم، وبعد عشر سنوات من الحرب، لم يعودوا ورقة جاذبة لأي طرف. لا السعودية تريد الاستمرار في مستنقع لا ينتهي، ولا الإمارات مستعدة لذلك، ولا حتى إيران قادرة على تمويل مغامرة لم تعد تخدم إستراتيجيتها الكبرى. صنعاء التي كانت رأس حربة “المحور” تحولت إلى عبء ثقيل يُسرّع انهيارَه. والسؤال المقلق الذي يطرح نفسه الآن ليس “هل سيسقط الحوثيون؟” بل “من سيملأ الفراغ الذي سيتركونه؟” هل سيعود اليمن ليشكل دولة موحدة من جديد؟ أم ستتفتت البلاد إلى كانتونات طائفية وقبلية؟ أم أن قوى إقليمية أخرى -تركيا، قطر، أو حتى الصين- ستسارع إلى احتلال المكان؟

ما نشهده اليوم ليس تراجعا تكتيكيا لإيران، بل بداية نهاية مشروع سياسي – عقائدي راهن على تصدير الثورة من خلال الميليشيات كبديل عن الجيوش الوطنية والدول الحقيقية. من صنعاء إلى بيروت، تتهاوى الأوهام واحدة تلو الأخرى، وتظهر الحقيقة المؤلمة: لا يمكن بناء إمبراطورية على أكتاف وكلاء يبحثون أولا عن مصالحهم المحلية، ولا يمكن خوض حروب بالوكالة إلى ما لا نهاية.

لقد آن الأوان لأنْ تدرك الدول العربية أن اللحظة التاريخية الحالية ليست مجرد فرصة، بل نقطة تحول إستراتيجية نادرة. عليها أن تغتنم هذا الانهيار الإيراني لبناء نظام إقليمي جديد قائم على المصالح المشتركة، لا على الميليشيات المسلحة؛ نظام يعيد السيادة إلى الدول الوطنية، ويضع حدا لثقافة الحروب بالإنابة التي أنهكت شعوب المنطقة عقودا.

لقد آن الأوان لأن يُكتب فصل جديد في تاريخ هذه المنطقة، فصلٌ بلا ميليشيات ولا حروب بالوكالة، فصلٌ تعود فيه الكلمة للشعوب والدول، لا للجماعات المسلحة ومن يموّلها من الخارج.

* المصدر: صحيفة العرب اللندنية