محمد عبده الشجاع
حول "مذكرات" الرئيس صالح ومصيرها وعلاقة الشاطر بالأمر
حين قررتُ تتبع أمر المذكرات، كان لابد من أن أُمسك خيطاً رئيسياً لطرق هذا الباب، وليس بالضرورة الإلمام بكل التفاصيل، التي قد تحتاج لجهد وتواصل، وربما لن تجد تجاوباً بحكم الظروف التي تمر بها البلاد، جراء انقلاب جماعة الحوثي في 21 سبتمبر 2014م، والسيطرة على كل مفاصل الدولة، ودخولها في حرب طويلة الأمد، استهلكت الكثير من القدرات البشرية وما زالت، والبنى التحتية، ووضعت مصير بلد بأكمله على كف عفريت، دون إيجاد أي بصيص أمل للخروج من هذا النقق المظلم حتى الساعة.
لذا من البديهي، أو بالأصح، يكفي أن تفتح هذه المقالة؛ باب التساؤلات، أمام المهتمين والمعنيين من جانب، والقراء والسياسيين من جانب آخر، وأمام الرأي العام، والمواطن اليمني تحديداً والعربي عموماً، بحكم العمر الذي قضاه الرجل في الحكم، وقيادته لحزب أثبت تجذره في المجتمع، وارتباطه بالقضية الفلسطينية، وقضايا العرب عموماً، وعلاقته الواسعة بالأقطاب الدولية كلاعب سياسي تملّكه الدهاء.
استطاع صالح تذويب الكثير من الجليد، واللعب على كل حبال السياسة، وتأسيسه للوحدة اليمنية بين الشطرين، في 22 مايو 1990م مع شريكه آنذاك الرئيس "علي سالم البيض"، كحدث طاغ على كل الأحداث، ناهيك عن ارتباطه بحقبة أو فترة زمنية صاحبتها أحداث مثيرة، وتحولات تاريخية ما زالت تثير جدلاً وصراعاً حتى اللحظة، وعلى كل المستويات الداخلية، والإقليمية، والعالمية، حتى ظهوره الأخير والمثير بعد موته بستة أشهر، من خلال آخر خطاب سجله قبل موته بساعات.
إن رجلاً بحجم صالح، تربع الكرسي أواخر السبعينات، ليستمر في الحكم بعدها لثلاثة عقود ويزيد، يستحق السؤال عن "مذكراته"، أياً كان الخلاف أو الاتفاق؛ حول شخصه، وفترة حكمه، ونهايته.
بدوري.. سألت أحد الصحفيين المقربين من الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، الذي تمت تصفيته من قبل جماعة الحوثي أواخر العام المنصرم، من قبل جماعة؛ لطالما حيرت المشهد في تركيبتها الدينية، والسياسية، والعسكرية، والعصبوية، والمذهبية أيضاً، وطريقة تفكيرها ومحاولة تمرير مشروعها الذي يحمل أبعاداً خطيرة من بوابة "الولاية" تحت أنظار القبائل المتخاذلة المنكفئة، وبعض قوى اليمين واليسار والوسط، وتواطؤ دولي ودعم إقليمي واضح.
أخبرني هذا الصحفي، وهو أحد الذين كان لهم دور في تبويب وصف المذكرات بحسب كلامه، ومن الذين وقفوا في وجه الربيع العربي، إلى جانب عمله الصحفي والسياسي لأكثر من عقدين، وارتباطه القوي بمؤسسة الرئاسة؛ بأن مصير "المذكرات" غامض حتى الآن، مبيناً أن هناك (ثلاث نسخ) على الأقل كانت موجودة وعلى النحو التالي:
نسخة لدى الرئيس علي عبدالله صالح نفسه في منزله، مع وثائق مهمة (أصول)، ويرجح أن يكون قد تم الاستيلاء عليها كاملة من قبل الحوثيين، عند تطويق واقتحام المنزل؛ بقوة وعتاد يكفي لاقتحام مدينة بحجم (بيروت)، هذا في حال أنه لم يكن قد هربها قبل ذلك. حيث اتضح لاحقاً أن الرجل كان مخترقاً تماماً من قبل "الهاشمية السياسية"، ووحده من كان متيقناً من ذلك، لكن عناده لم يدفع به إلى قول ذلك بوضوح، إلى جانب إدراكه أن الإفصاح مغامرة ستحدد خاتمة أحد الطرفين، وهو ما حدث بالفعل في اللحظات الأخيرة. وحتى في خطابه الأخير ظل يكيل المديح للهاشميين واصفاً إياهم بالمناضلين، ثم أثنى على أسرة "حميد الدين" مقارنة بهولاء يقصد "الحوثيين"، وكان باستطاعة الرجل أن يقول ما يشاء فيهم، لولا أنه وكالعادة حريص على وحدة النسيج الذي يدرك خطورة تمزقه.
*النسخة الثانية "لا أدري أين هي بالتحديد" والحديث هنا للصحفي، لكنها مع جهة ما. ربما دار نشر أو من هذا القبيل.
*أما النسخة الثالثة، وربما هي الأهم من وجهة نظر الكاتب بحجم ما سنورده تباعاً، فهي بين يدي العميد "علي حسن الشاطر"، (مدير دائرة التوجيه المعنوي) ورئيس تحرير صحيفة (26 سبتمبر) لسنوات، أهم المؤسسات الحكومية، وعراب الكثير من التوجهات والمسارات في عهد النظام السابق، والذي جعل من التوجيه المعنوي مؤسسة متكاملة الأركان، عمل كل ذلك بصمت وهدوء، إلى جانب زميله "عبده بورجي" نائب رئيس تحرير الصحيفة، وسكرتير الرئيس صالح، والذي اختفى هو الآخر من بعد إصابته في حادث مسجد دار الرئاسة. قبل أن يتوارى الشاطر عن المشهد بسبب أحداث الربيع، ومضايقته من قبل من ارتبطوا بالساحات في صنعاء؛ بحجة الفساد، يليها اجتياح حركة الحوثي للجمهورية اليمنية والعاصمة تحديداً، وملاحقة معظم أركان النظام السابق، واقتحام منزله، واختطاف أولاده، وقيامهم بتعيين شخص من بيت المهدي كتوجه عنصري واضح، قبل أن يتم اقتلاع (الطير الجمهوري) من جدار البوابة العملاقة لذات المؤسسة، كرسالة واضحة للجمهوريين وما أكثرهم طبعاً مقابل هذه الجماعة؛ بأن أهداف وثورة سبتمبر 1962م لم يعد لها معنى.
الأهم هنا هو ظهور العميد الشاطر، الذي كان عاد إلى الواجهة بصورة مثيرة قبل مقتل الرئيس السابق بشهور، بعد غياب طويل.
ما دل على أن الرجل كان محل ثقة لدى النظام السابق، كما أنه يتحكم بمؤسسة كان لها دور واسع في المشهد السياسي، والثقافي، والاجتماعي، ومؤسسة الرئاسة تحديداً.
ولأن العميد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمل الصحفي من خلال صحيفة 26 سبتمبر التي كانت تعنى بشؤون القوات المسلحة والأمن، إلى جانب مواضيع أخرى كالقضايا الاجتماعية والثقافية والعربية القومية.. استطاع من خلالها استقطاب العديد من الأقلام، وكانت بوابة مهمة لنشر أفكار ورؤى أهم شخصيتين أدبيتين حتى آخر لحظة هما الشاعر والمفكر الراحل "عبد الله البردوني"، والدكتور "عبد العزيز المقالح"، إلى جانب اهتمامها بأحوال القوات المسلحة والأمن، وانجازاتهما، كما أنه طور من قدرات ومطابع المؤسسة، ونشاطاتها، خلال السنوات الأخيرة، وبشكل لافت.
أضف إلى أنها كانت مركزاً لاحتواء وطباعة الكثير من الإصدارات، والدوريات والمجلات، والتوثيق.
حرص "الشاطر" على عدم الغياب الكامل بعد أحداث 2011م، فكانت له كتابات في صحيفة "الجمهورية" التابعة لمؤسسة الجمهورية للطباعة والنشر، الصادرة من مدينة (تعز) والتي ظل يرأسها الأستاذ "سمير رشاد اليوسفي"، قبل أن تعم الفوضى هذه المدينة، ويتم نهب المؤسسة بالكامل والعبث بارشيفها، ومحتوياتها، هي الأخرى بعد أن كانت شهدت تطوراً واضحاً في نشاطاتها، ومطابعها، وإصداراتها، كان ذلك على مرأى ومسمع.
ويعد تواصل الشاطر الصحفي بعد إزاحته من خلال الكتابة، أمر محسوب له وإن جاءت في لحظة فارقة حيث لا صوت إلا صوت الثوار والرصاص، كانت مقالات هادفة وحريصة، تركزت حول المجتمع وعلاقته بالآخر، وأهمية الحرص على السلام والتصالح، كما ركزت على بنية المجتمع ونسيجه إن لم تخني الذاكرة، وكان الرجل يعي تماماً ما يكتب عنه، وما يريد قوله، بحكم معرفته بكثير من الأوراق، بغض النظر اختلفنا معه أم اتفقنا بخصوص إدارته لمؤسسة التوجه المعنوي.
غادر الشاطر، وهذا أمر بديهي، لأن من يقود البلاد؛ "عبد الملك بدر الدين الحوثي، ومحمد علي الحوثي، وعبد الخالق الحوثي، وعبد الكريم الحوثي، وأبو علي الحاكم، ويحيى الحوثي، وحمزة الحوثي، ويحيى الشامي، وزكريا الشامي، وطارق الشامي، ومحمد العماد، وعلي العماد، وعبد الرحمن العابد، وعبد الله الحيفي، وحمود شرف الدين، والخيواني، ومحمد البخيتي، والمحاقري، والديلمي، والمتوكل، والمداني، والرزامي، وصالح الصماد الذي اغتاله الطيران لاحقاً، ومهدي المشاط، والوزير، والمراني، وعبد السلام فليتة".
أين اختفى العميد "علي حسن الشاطر"؟ وكيف استطاع الخروج من بين قبضة الحوثي؟ حاولت سؤال أحد اقربائه من باب الفضول الصحفي، فأخبرني أنه بخير ويعيش خارج البلاد في إحدى العواصم العربية أو الأجنبية.
اختفى في لحظة فارقة وموجعة، وبحسب المصدر السابق يبدو أنه خرج خارج البلاد، مع طاقم السفارة الروسية، الذي غادر هو الآخر وسط دهشة وملابسات لم تكشف تفاصيلها كاملة بعد، ولا كيف تم اتخاذ قرار المغادرة بتلك الطريقة إلى المملكة العربية السعودية.
الأهم هنا أين هي مذكرات الرئيس صالح؟ ما مصيرها؟ وما هو دور "أحمد علي عبدالله صالح" النجل الأكبر في هذا الجانب لطالما شكل صمته حيرة بين الناس منذ أكثر من خمسة أعوام؟ ومتى ستجد طريقها إلى القارئ؟
حيث وإن "المذكرات" هي كل ما تبقى للرجل؛ على اعتبار أن التحالف كان قد قصف بيوته، ومساكن أقربائه، وحتى الأماكن الأثرية التي لها علاقة بجده "عفاش".
قبل أن يعبث الحوثيين بكل شيء ارتبط به، "جامع الصالح" الذي كان شعرة معاوية، وما يحويه من "متحف" شخصي لمسيرة الرجل طوال 40 عاماً في الحكم.
كان الشاطر ولا يزال محل ثقة ليس لدى صالح وأسرته، وإنما لدى العميد/ علي حسن الشاطر نفسه، بحكم أنه تحمل هذا العبء، ليكون أقرب للصندوق الأسود؛ ما لم نسمع شيئاً مغايراً يثبت عكس ذلك.
لكن ما لا يمكن إنكاره، دور هذا الرجل الذي استطاع خلال عقود، الإمساك بخيوط عديدة، ليس من السهل التحكم بها والمحافظة عليها، وهذا دليل على النفس السياسي الطويل الذي تميز به بعض شخصيات النظام السابق، من وزراء وديبلوماسيين.
يوماً ما سنجد "المذكرات" تباع في المكتبات، وحينها سوف نكون مع فصول جديدة؛ من الجدل والاستشهاد، والتحليل، والاستقراء، والتأمل، والإقرار بما حمله المحتوى من معلومات، وأحداث، ومذكرات على كل الأصعدة، ليظل هذا الرجل محل تباينات أمام أجيال ربما لم تولد بعد!
وهنا اختتم ما كتبت أعلاه ببيت شعري يقال بأنه للإمام الشافعي، يقول فيه:
(وعاشر بمعروفٍ وسامح من اعتدى
وفارق ولكن بالتي هي أحسنُ)!!