يوم ضرب طيران التحالف قصر الشعب في تعز ، نزحنا هاربين من حارة القصر الجمهوري الى شرجب وكنا اربع عائلات من اسرة واحدة دعمت التعداد السكاني العام بخمسين راس . سكنا في دارين بضيافة المربي الفاضل الأستاذ محمد عبد الرزاق وعشنا شهورا في قرية الدمنة النائية بين أناس طيبون يطعمون الغريب دون ان يكون في معلمونا ان الحرب ستطول وأن بيوتنا ستظل مهجورة لفترة طويلة وان كل متعلقاتنا الشخصية واثاث بيوتنا واصدقائنا وجيراننا واهلنا سيصبحون مع الوقت مجرد ذكريات من ماض جميل.
وكان جمعنا ذاك مباركا لم تستطع ايام السلم ان تجمعنا بنفس تلك اللمة مرة واحدة وقضينا في شرجب وفي التربة أجمل ايام حياتنا وعشنا اوقات ممتعة نسينا معها فجائع واهوال الحرب وخساراتها وتعرفنا على أناس جدد أصبحوا بمرور الوقت اهلنا واحبابنا واصحابنا ثم ضاقت بنا الأحوال وتفرقنا ثانية اشتات بلا بيوت ولا اثاث وأنا شخصيا استقريت في صنعاء مراعي تتحرر تعز.. وانتقلت من صنعاء الى عدن مراعي متى تتحرر تعز.. وسأنتقل الى الحديدة بما تبقى لي من صبر واثاث لاستقر في الحديدة على بال ما تتحرر تعز!
واحنا لما نزحنا كان عمر الحرب شهر وشوية وقلنا " أمد ما تتحرر تعز" ومنذ ذلك الحين واحنا ننزح اشتاتا من مكان الى آخر في انتظار متى تتحرر تعز. قرح ضمارنا وتشعتلنا وخسرنا ارزاقنا وبيوتنا واثاثنا كله وخرج اطفالنا من مدارسهم وعاشوا معنا ظروفا لا تليق بحياة الطفولة واحنا وهم صابرين ومراعيين لليوم متى تتحرر تعز ومتى تعود مؤسسات الدولة وتعود الحياة الى طبيعتها اقلها مثلما كانت من قبل أن يستلم حمران العيون "هكبة تحرير تعز".
لم نكن نعرف ان الحرب بابا وفيرا للأرزاق وكنا طيبون نعتقد ان تحرير تعز مسألة وقت وأن العودة الى تعز الفن والادب والثقافة والتاريخ ستكون بسيطة وميسرة ولكن الأمر بدا مغايرا لكل تلك الأوهام وأصبحنا نتحدث الان عن تحرير تعز كما نتحدث عن الأحلام التي يصعب تحقيقها طالما وان عيال السوق يقودون عملية التحرير وعيال الناس مشعتلين بلا ظهر ولا سند ولا من يقل ربي الله.
واحنا الان على مشارف نهاية العام الرابع من الحرب، خسرنا كل شيء ولم تتحرر تعز وإنما تحررت الشيكات وأصبح هناك اثرياء جدد ومطاعم فتحت ابوابها للزبائن في تركيا وماليزيا وأصبح هناك عقارات وبيوت وتجار حرب وكل تبة لها سعر وكل زغط له قيمة وكل حارة لها حسبتها الخاصة في ميزان الصرفيات والنفقات الخاصة بالتحرير.
والواضح ان جماعة تحرير تعز مش ناوين يحرروا شارع التحرير في قلب المدينة إلا وقد وصل سعر الدولار الواحد الى ألف ريال، ما بالكم عندما يكون الأمر متعلقا بتحرير مدينة؟! ولا هو باين اصلا ان " المخانيث وعيال السوق" قد شبعوا واكتفوا وقالوا بس، وكلما كان هناك نية جادة لتحرير تعز تكون هناك نفس الأظافر ونفس المخالب ونفس الوجوه ونفس الأفكار لعرقلة الموضوع وكل تأخير يعني مزيدا من الزلط لعيال السوق ومزيدا من الأفقار والشتات لعيال الناس الذين لايترزقون من الحروب والخراب والدمار ومراعيين تتحرر تعز.
ما تعلمته وادركته وانا نازحا في قرية الدمنة ان الحياة بسيطة ولا تحتاج الى كل هذه الأطماع التي دارت بسببها ابشع حرب في حياة اليمنيين ، وما تعلمته واحنا نتنقل نازحين من مدينة الى اخرى ان تعز لن تتحرر إلا إذا كان هناك محمد عبدالرزاق في كل جبهة وإلا على الدنيا السلام .