حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

في قلب صالح.. هادي والإصلاح ورمح الحوثي الصدئ

Monday 03 December 2018 الساعة 07:56 am

تأملات في الخطوط التي قادت إلى ديسمبر الأسود 2017
(1 - 3)

مضى عام كامل على الوقائع التي أسفرت عن مقتل الرئيس علي عبدالله صالح، في 4 ديسمبر 2017. بالنسبة لهذا الأخير، فإن طريقته في مواجهة الموت، مثّلت لحظة إنسانية بطولية حقاً، مفعمة بالمعاني ومثيرة للإعجاب الصافي والإجلال الذي يشعر به الناس تجاه الأقدار الكبرى في التاريخ. لكنها لا تبدو هكذا دائماً، وبوضوح لا يقبل الجدل، إلّا إذا نظر إليها الجميع من منظور الكرامة الشخصية لرجل اشتهر بالحذق والدهاء وعزة النفس.

أما عند معاينة الأمر من الزاوية الوطنية الكلية، فإن تلك النهاية، على الأقل، ستكون قضية مشوبة بالالتباس وقابلة لتأويلات متعددة ومتباينة بحسب الأهواء والمصالح السياسية.

وفي المستقبل، سيظل تحالف صالح مع الحوثيين موضوعاً للجدل والتقييم والاستعادة الدائمة والاصطياد المغرض، على الرغم من الحقيقة الساطعة وهي أن ذلك التحالف كان هو الممكن السياسي الوحيد الذي تبقى للرئيس صالح ولأنصاره.
علاوة على أن ذلك التحالف كان هو الفرصة الأخيرة التي أتيحت للحوثيين، أمام الداخل والخارج، لاختبار أهليتهم لممارسة السياسة بمعناها الأوسع.

في الأغلب الأعم، لم يحتفظ بالولاء للرئيس صالح إلا من كان لديهم إدراك عميق بما كان يوليه من اهتمام بمسألة كرامته الشخصية كرئيس سابق شديد الاعتداد بنفسه وتاريخه، أي كل من كانوا لا يكتفون بتأييده ومناصرته على أساس اتفاقهم مع خطه السياسي، بل أولئك الذين كانوا يمنحونه، عن طيب خاطر، تفهماً غير مشروط لاتخاذ كل ما يصون كرامته واعتباره ومكانته المتصورة بالنسبة إلى التاريخ.

بعد تسليمه للسلطة بموجب المبادرة الخليجية، ظل صالح هدفاً ثابتاً للدعاية والتحريض الثوري والاتهام الكيدي عن طريق شائعات تنسب إليه كل ما كان يجري في البلاد من قلاقل وأعمال عنف واغتيالات.

وبخطى حثيثة تم تأليب الداخل والخارج عليه. وقد كان الحوثي هو الرمح الصدئ الذي انطلق -إما بوعي وقصدية خبيثة أو بغباء وبلادة طبع أو بمزيج منهما- من القبضة المرتخية للرئيس هادي ومعه جماعات الإصلاح والنخب السياسية "المستثورة"، صوب قلب الرئيس السابق بعد أن فشل فريق منهم في إتمام اغتياله عام 2011.

نحن نشير هنا إلى شبكة معقدة من حوادث وممارسات وجهود أسهمت، بمجموعها، في تهيئة الظروف للحركة الحوثية التي كان صعودها ضربة ماحقة أصابت في طريقها مجموعة من الأهداف، فأوقعت أولاً بالجهات التي ساعدت في حدوثها، ثم شقت طريقها باتجاه هدفين آخرين فأصابتهما على التوالي:

1- الضربة غرزت نصلاً قاتلاً في قلب اليمن بمجرد سقوط العاصمة عام 2017.
2- واستغرقت الضربة ثلاثة سنوات قبل وصولها إلى قلب الرئيس صالح لتمزيقه وتحطيم جمجمته.

تدريجياً وجد صالح نفسه وحيداً، بلا سلطة ولا صفة تخوله تحريك الجيوش وتعبئة الأنصار، وجد نفسه محشوراً في حيز مقفل مع الحوثي المندفع والمختال بمصادفات سعيدة منحته تمكيناً على مركز الدولة بثمن بخس.

كانت فكرة التحالف مع الحوثيين تنطوي على شيء منفر يجرح الضمير الوطني. كانت الفكرة محرجة للرئيس صالح وحزبه أولاً: من وجهة نظر الدولة الوطنية التي كان يحكمها ذات يوم والتي نفذت سلسلة حملات عسكرية لإخماد التمرد الحوثي في صعدة، وكانت فكرة محرجة ثانياً: من وجهة نظر ثورة 26 سبتمبر ومبادئ وأعراف الوطنية اليمنية الجمهورية الناشئة عنها، وهذا الحرج يأتي بسبب المحتوى الإمامي والمذهبي الذي يكتنف أيديولوجية الحركة الحوثية.

مع التنويه إلى أن الأطراف السياسية المشاركة في انتفاضة 2011 كانت قد أزالت أي حرج وطني كامن في فكرة التحالف والتقارب مع الحوثيين. وبعض تلك القوى والأطراف، إن لم تتحالف مع الحوثيين، فقد أظهرت على الأقل الرغبة في ذلك، وكان بعضها قد قطع شوطاً كبيراً.

لم يكن صالح وحزبه أول من محضوا الحوثيين الاعتراف والصحبة بل كانوا آخر قوة سياسية فعلت ذلك، وعلى مضض بعد أن ضاقت عليهم السبل داخلياً وخارجياً.
وللتخفيف من حدة الشعور بالحرج وعذاب الضمير، اتخذ صالح وحزبه من واقع أن البلد يتعرض لعدوان خارجي، حجة وسنداً أخلاقياً لتسويغ وتأطير موقفهم من الحوثيين وطنياً، على اعتبار أن ثمة قضايا كبرى وظروفاً تستدعي التسامي فوق الخلافات السياسة الداخلية ومصالحها.

من جهة أخرى، وبشكل أقل، كانت فكرة التحالف مع صالح مبعث حرج للحوثيين لكنه حرج من وجهة نظر ثورة 2011 ضد نظام الرئيس صالح، وهي الحدث الكبير الذي فتح الطريق لمشاركة الحوثيين فيه برؤيتهم الخاصة وأجنداتهم المستقلة عن الفاعلين الرئيسيين حينها. لقد وجد الحوثيون في مناخ التثوير مناسبة ثمينة لتطبيع وشرعنة نشاطهم العام داخل العاصمة والمدن الشمالية.

من منطلق تلك المناسبة الثورية، راح جزء من الدعاية ضد الحوثيين يعتمد على تذكير هؤلاء بخطابهم ومواقفهم في 2011 عن نظام صالح، ثم هاهم يمدون أيديهم للتحالف مع رأس النظام، الأمر الذي يعني خيانة لضميرهم الثوري وتأكيداً على زيفهم. والنوع الآخر من الدعاية أخذ على عاتقه تذكير الحوثيين بثأرهم مع الرئيس صالح على خلفية حروب صعدة ومقتل مؤسس الحوثيين.

وهناك نوع ثالث من الدعاية كان يركز على إظهار تناقض الرئيس صالح مع مواقفه وخطاباته ضد الإمامة والكهنوت وها هو يضع يده في أيديهم ليؤكد بذلك خيانته للثورة وللجمهورية... إلخ.

بعد مرور عام من التدخل العسكري بقيادة السعودية تم التوقيع في صنعاء على اتفاق شراكة لأول مرة بين الطرفين.

ولأول وهلة كان يبدو وكأن الخطوة بمثابة انتصار سياسي للرئيس السابق وحزبه. ظاهر الأمر كان يوحي بأن صالح والحوثي قاما بترسيم علاقتهما وتأطيرها سياسياً وتنظيمها ووضعها في المسار الصحيح، وهو ما يعني، بالنسبة للرئيس السابق، تحويل تلك العلاقة من تهمة وشتيمة أطلقها خصومه -لغرض مزدوج: أولا لتلطيخ سمعته وتخوينه داخلياً بشبهة إعادة "نظام الإمامة" الذي لم يتوقف صالح عن التفاخر بمساهمته في أحداث الثورة التي أطاحت بذلك النظام وأعلنت الجمهورية. وثانياً، لتحريض السعودية والمجتمع الدولي عليه- تحويل هذه العلاقة إلى صيغة سياسية ذكية أنضجتها الحرب واكسبتها بعداً وطنياً بما يجعل منها مصدراً للقوة والتماسك في الجبهات ومصدراً للشعور بالزهو الوطني بدلاً من الشعور بالخطيئة والعار.

وكان المتوقع من صيغة الاتفاق أن تمهد الطريق لتحسين وتقوية النموذج المسيطر على صنعاء وإعادة الاعتبار لما تبقى من هياكل الدولة وتقاليدها ومرجعياتها المؤسسة والناظمة، والمحافظة على واقع سياسي وأمني بدرجة معقولة من الاستقرار والانضباط مقارنة بحالة التشظي والفوضى التي تعيشها المناطق الواسعة "المحررة" برعاية سعودية إماراتية.

لكن شيئاً من ذلك لم يتم.