الاتفاق بشأن مدينة وميناء الحديدة ليس انتصاراً للحوثيين، لكنه ليس هزيمة أيضاً. فهو وإن كان لا يشكل لهم موضوعاً للفخر، إلّا أنه، بالمقابل، لا يشكل مبعثاً للحرج الذي يمكن أن يزعزع معنوياتهم.
صيغة الاتفاق قابلة للتأويل من الطرفين على أنه نصر وعلى أنه هزيمة في نفس الوقت.
كانت الدلائل تشير إلى أن الحوثيين في طريقهم للانكسار عسكرياً هناك، وإن كان الأمر سيكلف دماراً وفظائع مرعبة بحق مدينة الحديدة ومنشآتها وقبل ذلك سكانها المدنيين. وفيما لو خسر الحوثيين الحديدة عسكرياً، فإن أثر ذلك عليهم كان سيكون مختلفاً بالتأكيد. لهذا وجدوا في الصيغة الأممية سبيلاً مثالياً يتفادون من خلاله خسارة لها معنى الهزيمة العسكرية الميدانية ومضاعفاتها النفسية والسياسية.
رغم أن النتيجة واحدة، وهي أن الحوثيين يخسرون منطقة حيوية، إلا أن لنتيجة كهذه دلالة تختلف باختلاف الطريقة التي تؤدي إليها.
وبمناسبة الحديث عن الحديدة، يخبرنا التاريخ أن قوات إنجليزية تقدمت، قبل مئة عام من الآن، بالتمام والكمال، لاحتلال المدينة والميناء اللذين كانا يخضعان للإدارة العثمانية. لقد كانت تلك الخطوة من جانب البريطانيين متزامنة مع انتهاء الحرب العالمية الأولى التي أسفرت عن هزيمة العثمانيين وإلزامهم بالانسحاب من مناطق كثيرة كانت تخضع لحكمهم ومنها اليمن الشمالي.
بعد احتلالهم للحديدة بثلاث سنوات، قام الإنجليز بتسليمها لحيلفهم الإدريسي أمير عسير، ونكثوا بذلك وعداً يقال إن المعتمد الإنجليزي في عدن كان قد قطعه للإمام يحيى الذي كان قد بعث إليه برسالة يحتج فيها على احتلال الحديدة. (اقرأ وجهة نظر أخرى للدكتور عبدالودود مقشر بالضغط هنا)
ونقرأ في وثيقة بريطانية هذه الملاحظة: "ولابد من التذكير بأن (الإمام يحيى) خلال السنوات القليلة الماضية كان قد اعتمد اعتماداً كبيراً على الدعم والمساندة التركية لبسط سيطرته على القبائل غير سهلة الانقياد والتي يعوزها المال". والوثيقة التي أخذنا منها الاقتباس هي عبارة عن مذكرة من المندوب السامي البريطاني في مصر السير وينجت، مؤرخة في نوفمبر 1918، تتضمن الإشارة إلى أن الانجليز أرادوا من السيطرة على الحديدة ممارسة الضغط على الإمام يحيى لاستكمال جلاء الأتراك من اليمن كما تقضي معاهدة الاستسلام الموقعة بين الأطراف المشاركة في الحرب العالمية الأولى، والحديدة كانت أيضاً ورقة ضغط ومساومة يستخدمها البريطانيون لدفع الإمام إلى سحب جنوده من الضالع وأطراف محمية عدن.
وفي دراسة بعنوان "العمليات البحرية البريطانية ضد اليمن إبان الحكم التركي 1914 - 199"، والتي أعدها جون بولدري، نجد اقتباساً من وثيقة بريطانية تحدد ثلاثة أهداف للسيطرة على الحديدة: "تشكيل قاعدة لاستسلام القوات التركية في المنطقة، وعودة الرعايا والأسرى البريطانيين المحتجزين، وحفظ النظام في المدينة والمنطقة المجاورة لها في انتظار قرار خاص بملكيتها النهائية".
لم يستطع الإمام فعل شيء لاستعادة الحديدة حتى العام 1925.
وافتتح أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب أحد الفصول بهذه العبارة: "الحديدة كابوس الانكليز في عدن وكابوس الإمام في صنعاء". والريحاني زار اليمن مطلع عشرينات القرن الماضي.
وفي حرب عام 1934 بين الإمام يحيى والملك عبدالعزيز آل سعود دخلت القوات السعودية واحتلت الحديدة وميناءها، ولم تخرج منها إلا بموجب اتفاقية الطائف.
وليس من المرجح أن يؤدي فقدان الحوثيين للحديدة، ولمجرد حدوثه، إلى سقوط سلطتهم في صنعاء.. وهذه هي الأسباب:
1 - لأن هناك سوابق تاريخية كانت الحديدة تسقط فيها بيد قوة أجنبية، دون أن يترتب على ذلك سقوط سلطة الإمام في صنعاء بشكل تلقائي. لكي تسقط صنعاء يجب دائماً أن تضاف عوامل أخرى سياسية وعسكرية بالتتابع أو على نحو متزامن.
2 - ولأن الإمامة، إذا اعتبرنا الحوثيين امتداداً تاريخياً لها، لا تعيش إلا على العزلة مع العالم الخارجي وليس على الانفتاح. وهذا يعني أن المنفذ البحري لا يشكل أهمية قصوى وحاسمة بالنسبة لجماعة مثل جماعة الحوثي.
بالطبع، هذا لا يقلل بأي حال من القيمة العسكرية والسياسية والمعنوية التي تتضمنها خسارة الحوثيين للحديدة. الفكرة هي أن ضربة كهذه لن تؤدي إلى إسقاط سلطة الحوثيين في صنعاء إلا في حال توافرت عوامل وشروط أخرى، عبر إدخال تعديلات سياسية وعسكرية، في استراتيجية الحرب.