عند مونتيسكيو، المبدأ الخاص بالجمهورية هو "الفضيلة"، ومبدأ الملكية "الشرف"، ومبدأ الاستبداد "الخوف".
فالجمهورية في فكر مونتيسكيو تشترط مواطنين فاضلين تتمثل فضيلتهم في "الاستعداد للتضحية من أجل الخير العام، وأن يفضلوا الوطن على أهوائهم الخاصة". بينما الفضيلة عند ميكافيللي في حديثه عن الجمهورية مرادفة للشجاعة.
إذن، وفقاً لمونتيسكيو، فبقاء روما جمهورية كان يتطلب بقاء الرومان فاضلين.
وإذا افترضنا أننا كيمنيين لم نكن ناضجين ولا فاضلين بما يكفي لكي تستمر لنا حكومتنا الجمهورية، وأن الخمسة وخمسين عاماً الماضية من عمر الجمهورية، في اليمنين ثم في اليمن الواحد، قد دلت على عدم أهليتنا لنحافظ على جمهورية يتيمة في محيط من الممالك والسلطنات والمشيخات في شبه جزيرة العرب، فإن الألف عام السابقة للجمهورية تدل بشكل قاطع على عدم أهلية الإمامة كنظرية وكتجربة، وأن واقع اليمن قد برهن على عدم صلاحيتها مرات كثيرة وبأشكال وطرق لا تقل عنها كثرة.
ومثلما نقول إن الإمامة هي تاريخ الإمامة، فالجمهورية في اليمن هي تاريخ الجمهورية، هي التجربة العيانية في العقود الستة الماضية من تاريخ اليمن في عهد الشطرين ثم في العهد الوحدوي. ولم تُمتحَن الجمهورية كنظام للحكم في اليمن الموحد سوى 25 عاماً في مقابل ما يزيد على الألف عام امتُحنَتْ فيه الإمامة ولم تبرهن على أية كفاءة وطنية طيلة تاريخها. وظلت تكرّر النسق نفسه من الأخطاء الشنيعة، وتفصح عن نفس النسق من العيوب والمساوئ.
فأي التجارب الجمهورية اليمنية هي الأنقى والأكثر تطابقاً مع النموذج الأعلى/ المثال؟ وما هو النموذج الأعلى وما هي صفاته؟ وهل التقييم للتجارب الجمهورية يتم بالقياس إلى النموذج النظري للجمهورية أم من خلال مقارنة تجربة جمهورية بأخرى؟
في السرديات التاريخية الخاصة بالتيارات التي توصف في العادة بأنها يسارية أو شبه يسارية وقومية، ما يشبه الإجماع على أن الجمهورية الحقة انتهت فعليا بانقلاب 5 نوفمبر عام 1967 الذي تغلبت فيه قوى الجمهورية المحافظة من "طبقات" القضاة والمشائخ على القوى الثورية الجمهورية التقدمية والحاملة لمشعل الحداثة والتنوير، بحسب هذه السرديات التي يعتنقها ويتوارثها صنف من السياسيين والمثقفين دون تدقيق أو مساءلة، ولا شك أن الحركة الإمامية استفادت من هذه السرديات بطرق كثيرة مباشرة وغير مباشرة.
فالجمهورية في صنعاء، كما نستشف من هذه السرديات، لم تكن جمهورية حقيقية إلا في الخمس السنوات التالية لقيامها. وما إن قررت القوات المصرية الانسحاب من اليمن حتى وثبت القوى المحافظة التقليدية على الحكم وراحت تنحرف به بعيدا عن المثال الجمهوري الصحيح.
وهذا شطط وجحود ومجافاة لواقع الحال.
وعلى اعتبار أن هناك نموذجاً معيارياً للجمهورية النقية، وأن الجمهورية في شمال اليمن فقدت نقاءها في وقت مبكر بالقياس إلى هذا النموذج، فهل كانت الجمهورية في الجنوب جمهورية مطابقة للنموذج المعياري بالمقارنة مع انحراف وزيف جمهورية ما بعد 1967؟
الحركة النقدية التي حكمت بعدم نقاء الجمهورية في الشمال، هي نفسها التي منحت الجمهورية في الجنوب إعفاء من أي تقييم نقدي لمدى التزامها بالمبدأ الجمهوري أو مخالفتها له. فالتقييم يتجه هناك إلى كون النظام في الجنوب كان تقدمياً، بمعنى أنه أخذ بالأيديولوجيا الاشتراكية الماركسية على النمط السوفييتي، فالمرجعية في التقييم هنا ليست الجمهورية بل التقدمية بالمفهوم الماركسي، تقييم لتجربة الدولة الاشتراكية أكثر من كونه تقييماً للتجربة الجمهورية.
لا أدري إن كانت الجمهورية والتقدمية الاشتراكية هما الشيء نفسه! أو إن كانت الجمهورية تصبح شيئاً بديهياً بمجرد الحديث عن التقدمية والاشتراكية والديموقراطية، رغم أن العالم كان يتنافس فيه طرازان مختلفان للديمقراطية، فهناك الديموقراطية الليبرالية الغربية وهناك ديموقراطية الحزب الواحد الاشتراكية التي توصف بالديكتاتورية من وجهة نظر ديموقراطية الغرب الرأسمالي.
إن المفاضلة العادلة بين التجارب، في اليمنين أو في اليمن الموحد، هي التي تفحص الوقائع وتبني الحجج على معيار واحد وليس مجرد تحزبات لا عقلانية وفقاً لانطباعات وأفكار مسبقة.
لقد أضعنا الجمهورية بافتقادنا طبقة المثقفين إلى الحس التاريخي والفضيلة التي تحدث عنها منظرو الجمهورية في كلاسيكيات الفكر السياسي.