أمين اليافعي

أمين اليافعي

تابعنى على

"الفتنة" التي لا تُحْتَمل خِفتها

Tuesday 09 June 2020 الساعة 10:36 am

والمرءُ يتأمل في الأبعاد والصيغ التي تتخذها حروب الطوائف الإسلاميّة (المستديمة)، لن يجد أفضل من ذلك الحوار الذي دار بين عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي وأحد الأمريكيين ليكون مدخلاً فسيحاً لما يُمكن أن يُقال في هذا الصدد. 


قال الوردي: «كنتُ في أمريكا، ونشب نزاعٌ عنيفٌ بين المسلمين حول علي وعمر، وكانت الأعصابُ متوترةٌ، والضغائنُ منبوشةٌ.. فسألني الأمريكي عمّن يكونا "علي" و"عمر"؛ هل يتنافسان الآن على الرئاسة عندكم كما تنافس ترومين وديوي عندنا؟


 فقلت له: إنهما كانا في الحجاز قبل 1300 سنة، والنزاع الحالي يدور حول أيهما أحق بالخلافة!

فضحك الأمريكي من هذا الجواب حتى كاد أن يستلقي، وضحكتُ معه ضحكاً فيه معنى البكاء.. وشر البلية ما يُضحك».

إن هذا الحوار القصير، والاستثنائي في عمق إيحاءاته، ورُعب دلالاته، يتألق ببراعة نادرة في فضح مركزيّة التاريخ الفاجع ومدى حضوره الفظ والدراماتيكي في جوف ذهنيةٍ إسلاميّةٍ ثابرت باستماتةٍ، منذ تلك اللحظة (الكارثة)، على أن تنمو وتستشري في أشد جوانبه سوءاً وحماقة.

إن ما يُحيّر في هذا الأمر، ويجعله أكثر قتامةً واستعصاءً على الفهم والتفسير، هو قدرته الخارقة في مقاومة كل العوامل (التجاوز، الانزياح، التعريّة، التآكل، الاندثار..إلخ) التي تعد من بديهيات التقدم الزمني. 

فهل نحن إذن إزاء رأسمال ضخمٍ، يزدهر ويتجدد ويتراكم على الدوام؛ ولا يألو جهداً عن مدّنا باستثماراته الهائلة، على أكثر من صعيدٍ، وبأكثر من معنى وفاجعة، في كل دوراتنا التاريخية؟!

إن الحنين إلى الماضي، والرغبة في استعادة لحظةٍ ما، هي سمةٌ أصيلةٌ لدى جميع البشر، ودائمة المثول، لكنها سمةٌ تجعل من حالة التوق إلى سكينةٍ مفقودةٍ أو مأثرةٍ غابرةٍ، في ظل حاضرٍ رديءٍ، مُسوِغاً لها.

 أما أن نتخذ من أشد لحظاتنا مأسويةٍ وفداحةٍ نقطة ارتكاز لنبني عليها محاولاتنا المستميتة لاستعادة الماضي، فتلك هي سِدرة مُنتهى الجنون!

لكن، ما الذي يعني ذلك؛ وكيف يمكن لتاريخٍ أن يتناسل من رَحِم هذه الاستعادة المجنونة؟

كتب نيتشه في «إرادة القوة» عن فكرة «العَوْدة الأبديّة»، وجادله كونديرا بخصوص تلك الفكرة في روايته «كائنٌ لا تُحْتمل خِفته»، وكلا الرأيين ثريان بالإجابة عن أسئلتنا؛ في معنى أن يكون التاريخ تكرارياً، خصوصاً في محطاته الكارثية، وجوانبه المأساوية.

تفترض فكرة نيتشه بأن كل شيءٍ حدث في الماضي سيتكرر بلا نهاية، لكن هذا التكرار، بحلوه ومرّه، لا يعني شيئاً. 

فالعالم هو عالمٌ لا هدف لهُ، عالمُ اللاجِدّة والبلاهة اللامتناهية، ونظامه أشبه بلعبةِ نردٍ جرى لعبها عدداً لامتناهياً من المراتِ، فكان من المتوقع أن تتكرر نتائجها في نهاية المطاف.

إن هذا التكرار غير ذات أهمية مثل حربٍ وقعت في القرن الرابع عشر بين مملكتين أفريقيتين فما غيّرت شيئاً في وجه التاريخ؛ مع إن ثلاثمائة ألف أفريقي لاقوا فيها حتفهم، وفي عذاباتٍ تفوقُ الوصفِ. فهل كان سيتغيّر شيءٌ لو أن هذه الحرب بين المملكتين الأفريقيتين في القرنِ الرابع عشر قد تكررت مراتٍ لا حصر لها في سياقِ العودة الأبدية؟

بلى، يرد كونديرا، كانت ستؤول إلى كتلةٍ متراصفةٍ من الجماجم، وتفاهتها ستكون متصلةً دون توقف.

 فلو قُدِّر، مثلاً، للثورةِ الفرنسيةِ أن تتكرر باستمرار، لكان المؤرخون الفرنسيون أقل فخراً بروبسبيير.

 لكن، بما أنهم يتحدثون عن شيءٍ لن يعُود ثانيةً، فإن السنوات الدامية تصيرُ مجرّد كلماتٍ ونظرياتٍ ومجادلاتٍ؛ تصيرُ أكثر خِفّةً من الوبرِ، ولا تعود مخيفةً. 

هنالك فرق شاسع بين روبسبيير الذي لم يظهر سوى مرةً في التاريخ، وروبسبيير الذي يعُودُ، بشكلٍ دائمٍ، ليقطعَ رؤوس الفرنسيين!

يبدو الرأيان، في ظاهرهما، وفي جوهرهما كذلك، متناقضين كلياً، لكن ماذا لو كان قد قُدِّر لهما أن يجتمعا على صعيدِ حالةٍ ما، وبات كليهما يَصُبّان في قُعرِ مستنقعها، وبتآلفٍ عجيبٍ؟ أليست تلك هي طامةٌ كُبرى؟!

 لننظر في عمقِ حالتنا الإسلاميّةِ، ونتمعن في مسار دوراتها القاتلة، وصيرورة ملهاتها العصيّة على التوقف أو الوقوف؛ فعلى ماذا يمكننا العثور؟

 هل سنجد، مثلاً، فرقاً لو أننا قُمْنا بإعادةِ رمي نرد «الفتنةِ» مراتٍ لا حصر لها، بذاتِ الطريقةِ التي جرى رميها على طول التاريخ، وبنفسِ عددِ المراتِ، التي لا حصر لها؟ ماذا يعني لو أنها قد حصدت وتحصد وستحصد آلاف الأرواح من البشرِ في كلِ حِقبةٍ من هذه الحِقبِ العبثيةِ؟ 

أو لِنَقُـل؛ ماذا يعني لو أن عادتنا الأصيلةً قد صارت تستحثنا على توظيفِ أرقى وأفضل مهاراتنا لابتكار سلسلةٍ مُنزَّهةٍ من الروبسبييرات المناسبة تماما لمتطلباتِ كلِ مرحلةٍ للقيام بمهامِ قطعِ رؤوس آلاف من البشر، دون هوادة، باسم خلافٍ عمره أكثر من أربعة عشر قرناً؟

ومع ذلك، ويا إلهنا الذي في السماء، كم هو الفخرُ سامقٌ بهذه الروبسبيرات الفذّة حتى كاد أن يُناطِح السحابِ!

وفق المنطق التاريخي-البشري، لا يُمكِن لكلِ هذه الأشياء أن تحدُث ـ متوافقة ـ في أي مكانٍ أو زمانٍ، ثم تتكرر بلا نهايةٍ، دون أن يكون هناك معنى أو عِبرة من وراءها إلا في ظل حالةٍ واحدةٍ، هي الحالة التي تحدث عنها نيتشه في سياق فكرته عن العودة الأبديّة، حينما يكون العالم بلا هدفٍ، عالمٌ من التفاهة والبلاهة اللامتناهية.

وتلك بالضبط هي حالتنا الرّثة، هي الحالة التي نعيش بها على متنِ حياة كنّا قد اعتبرناها، منذ يومنا الأول، «فانية»، فصارت بداهةً عديمةِ الجدوى والقيمة، وصرنا نحاول أن نتحايل بالتبرئ منها عبر شتّى الوسائل والأشكال، أقلّها بؤساً، ربما، اختيار العيش في معمعةِ بلاهةٍ سرمديّةٍ!

ستجد هُنا بالذات من سيفيض عليك، ووفق سلاحٍ تبريريٍّ نافذٍ، بالقول: الناسُ يقتلون في كل مكانٍ، وربما في سبيل غاياتٍ أتفه. 

وطبيعة السلطة، بما هي صراعٌ دائمٌ في سبيل تحقيق انتصارٍ حاسمٍ داخل العلاقات الاجتماعية، تدفع كل جماعةٍ للسعي إلى إنشاء قائمة طويلة بمقدساتها المعمورة بالتواريخ التذكارية واللحظات الخالدة، المُثخنة بالأساطير، والمطرزة بألمع الرموز والعلامات، حتى تحافظ على إخلاص وتفاني أعضاءها.

والمشكلة في هذا القول، إنه قولٌ صائبٌ، والشهرستاني في تاريخ «المِلل والنِحَل» قد أوجزه بعنايةٍ (ما سُلَّ سيفٌ في الإسلامِ على قاعدةٍ دينيةٍ مثل ما سُلَّ على الإمامةِ في كل زمانٍ). 

لهذا تجدنا أسرع ما نكون قد وقعنا في استسلامنا لمنطقه المراوغ والقاتل الذي يعفينا عن رؤية حجم تفاهتنا التي لا تُطاق.

لِنَعُد مرة أخرى إلى الحوار الذي جرى بين د.علي الوردي والأمريكي، ولكن هذه المرة سنتعمّد أن لا نأتي على ذكر أي أسمٍ من أسماء الصحابة (الإجلاء) حتى نرى الأمر من خلال وجهة نظرٍ تخلو من أي حمولةٍ دينيةٍ أو صبغةٍ قداسيّةٍ متعاليّةٍ أو اختراعاتٍ «ميتابشرية»... لننشغل بالحادثة نفسها، ولنكف عن رؤية رموزها وهم يطلّون من خلال شرفاتٍ عاليةٍ شيّدناها لهم طوبةً طوبة بحيث باتت الوضعيّة غير قابلة لأي حالة من حالات التواصل والنقاش ومحاولات الفهم والتفسير وفق مقتضياتٍ دنيويّةٍ صرفةٍ. سنقوم إذن بقراءة «الخبريّة» ـ كما يقول أشقاؤنا اللبنانيون ـ على النحو الآتي: «اختلف رجلان أو أكثر من قبيلة قريش (المكيّة) قبل أكثر من ألفٍ وأربعمائة سنة على شانٍ من صميم الشئون الدنيويّة، ثم تطور الأمر بينهم فيما بعد إلى حد التقاتل.

 وقبل أن يقبض الله أرواحهم، دعوه كثيراً أن يغفر لهم كل الكوارث التي قد يكونون تسببوا بها للناس، ودون ذنبٍ للناس فيها...». 

لكن، ولسوءِ الحظِ، مازلنا طوال الألف والأربعمائة عام نُثابِر في إبادة بعضناً بعضاً بكل أنواع الأسلحة المتاحة في سبيل الدفاع عن هذه المأساة، واستعادة منطقها القاتل، وروحها الآثمة، ونتائجها الكارثية.

إن الناس قد يتقاتلون بسبب التزاحم على الاحتياجات الدنيويّة الموضوعيّة، والمصالح الموضوعيّة واللاموضوعيّة، وفي سبيل السباق المحموم على السلطة... 

كل ذلك ربما قد يجد ما يبرره خصوصاً في ظل سلوكٍ عدوانيٍّ عنيفٍ يطبع بني البشر، ومصالح وحقائق يمكن أن يلمسها جميع الناس.

ومع ذلك، لا بد أن يصلوا في نهايةِ المطاف إلى تسويةٍ من نوعٍ ما حالما يصبح منطق التقاتل غير جدير بالدفاع عنه أو التبرير له أو حتى الاستمرار فيه، فما عاد تُؤّمَن منه حاجةٌ أو مصلحةٌ، ولا يجلب سوى الخراب والدمار. 

أما التقاتل دفاعاً عن القضايا المقدّسةِ، والحقائقِ الغيبية المُطلقةِ، والرموزِ المسوّرةِ بسياجٍ سماويٍّ لا تنفك عراه أمام احتمالات الخطأ، فذلك هو ما جعل تاريخنا كارثياً تكرارياً ولا نهاية لفظائعه، ولا سبيل لتجاوزه أو تعريته، وهو ما جعله أداةً طيّعةً لكل محترفي السياسة المنحرفين!

كان اليوناني هيراقليدس قد شبّه الحياة في تجددها الدائم بصورةٍ آسرةٍ للغاية (إنك لا تنزل إلى النهر مرتين، لأن المياه الجديدة تتدفق باستمرار). في سياق فكرة العود الأبدي بصيغتها الإسلاميّة الفريدة، تبدو المياه مختلفة تماماً، مقززة إلى حدِ الغثيان. هنالك مستنقعٌ مياهه آسنة، قد ركدت منذ مئات السنين، وازدهرت فيه أوساخ وأوبئة ملايين من البشر ممن غطسوا إلى أعماقه.. 

ومع كل هذا الدنس الباذخ، ستجد هناك من لديه استعداد تام ودائم، ليقذف بنفسهم إلى قعر مياهه، ويغطس بين أدرانه، دون أن يكون هنالك أملٍ ولو بسيطٍ في مفارقته! وتلك هي الصورة باختصار.

* نقلا عن مجلة "الآداب" اللبنانية