آزال الصباري

آزال الصباري

تابعنى على

من طقوسنا الجميلة.. (جيت أمسِّي عندكم)

Thursday 11 June 2020 الساعة 06:53 am

حالفنا الحظُّ في العيش فترةً من العمر في القرية، وما أجملها من فترة، وأعظمها من قرية.

قريةٌ كانت بساطتُها قوْتَنا، وبأسُ وكرمُ أهلِها قوَّتنا.. من تضاريسها القاسية كَبُرَ صبرُنا، وشمَّر عزمُنا ساعديه، فأتزرنا الكفاح في كل دروبنا..

القريةُ مزيجٌ من الكدِّ والرَّاحةِ، لا يجيدُ الجمعَ بين هذين الشعورين وتمييز الخيطِ الرَّفيع بينهما إلا من عاش فيها وامتلك في قلبه نبض حياةٍ، وفي عينيه مرآةَ جمال.

في القريةِ ستهبطُ الذاكرةُ لتستحضرَ بعضا من طقوسها الجميلة، وهذه المرة أبطالُ حديثنا، من منحوا الذاكرة جمالاً لم يُنس حتى اللحظة، نتذكره فَنَشعر بالحنين، ونَحِنُّ يأسرنا الجمالُ ذاته.

أبطالنا هم جماعةٌ من ذوي البشرة السوداء، الذين يطلق عليهم مجتمعياً لقب (الأخدام) و-رغم لاإنسانية المفردة وعنصريتها الواضحة والتي نأسفُ لإبرازها هنا- إلا أننا سنضطر لاستخدامها إذ لم نجد غيرها لنشير به عند تناولنا لأبطال هذه الحكاية الجميلة.

في كل ليلةٍ، وعقب تناول وجبة الإفطار الرمضاني بعد يوم شاقٍ مضنٍ، وقد أوقدت النوافذُ مصابيحَها، وآنست البيوت مساء رمضان، وآنسها بتجمعنا حول شاشة التلفاز، غالبا ما يجتمع سكان المنازل المتقاربة في بيتٍ واحد، بل في غرفةٍ واحدة، وأمام شاشة تلفاز وحيدة كنا نتسابق في حفظ أغنية "فرسان الميدان" أو مقدمة مسلسل "دحباش" عن ظهر قلب، ومع ذلك لم نكن نهدر وقتاً كبيراً أمام الشاشة الصغيرة، إذ نحن مولعون بانتظار (المُمَسين)!، نسترق السَّمع على السماء، لعلَّها تأتي بقرع طبولهم، وإذا ما حدث وانشغلنا فإننا نُوكل مهمةَ مراقبة قدومهم لأكثرنا خروجاً..

"الأخدام" شخصان أو ثلاثة أو عائلة كاملة اعتدنا مرورهم في ليالي رمضان بين الأزقة والبيوت، لإحياء بعض لياليه على وقع طبولهم وكلمات معبرة يمتدحون بها من يمنحهم بعض النقود أو الطعام، أو حتى "تخزينة" وهي بضعة أعواد وأغصان من نبتة القات الشهيرة.

أتذكر أننا كُنَّا نخبىء بعضاً من "قات" آبائنا أو أمهاتنا، أو نكلِّف من "يألب" لنا القات الخاص بهم، لنقدمه لهم، لا سيما لمن سيصدحُ منهم بأسمائنا حينها.

كانت معظم كلماتهم وإطراءاتهم لنا مدفوعة الثمن، ما عدا العبارة المعهودة والمتكررة التي يمرون بها بين بيوت القرية.. (ألا يا مسى جيت أمسي عندكم وأسعد عيال الرضى بالعافية)، والتي ما إن نسمعها على وقع طبولهم حتى نتسابق نحوهم، نقترب منهم أكثر، ندقق النظر في حركة شفاههم، نلتقط بشغفٍ وفضولٍ أولى الأسماء التي سيذكرونها، وهم يبدون في ذلك المشهد كما لو كانوا وفداً رئاسياً مهيباً ونحن جمهوره المحب المنصت لخطبة عصماء، ترتفع أصواتنا، ضحكاتنا، وتصفق أمهاتنا -ببهجة- من خلف النوافذ ومن وراء بوابات البيوت!

يتحرك موكب "الممسين" (سنستعين بهذه المفردة بدلا عن مفردة "الأخدام" لثقل الأولى على اللسان واقتراب الثانية من مفهوم الحدث، باعتبارها مشتقة من المساء وتعني هنا الأشخاص الذين يسرون في مساءات رمضان).. مرددين على مسامع سكان القرية: "مساء الخير"، أو يقدمون تهنئتهم بلغةٍ مغناةٍ خاصةٍ بهم.

يفتتح "المُمَسون" كل فقرة بذكر العبارتين المذكورتين أعلاه ثم يتبعونها بذكر اسم أو أسماء من يقصدون تهنئتهم، فمثلا نذكر لهم اسم علي، وليكن علي صاحب البيت الذين يقفون أمامه لمدة خمس أو عشر دقائق وربما أكثر بحسب عدد الأسماء والعطية، وما إن نضع في العلبة المعلقة على رقبة أحدهم ما منحنا صاحب الدار (علي) أو زوجته، إلا ويجري الطبل على هذه الترنيمة الجميلة:

تكتك.. تكتك.. تك تك دُم..

وتعبر كلماتهم نوافذ الدار 

(ألا يا مسا جيت أمسي عندكم..

واسعد عيال الرضا بالعافية..

ألا يا مسا نذكر الليله علي

شاجع قوي واسعد الليلة مساه

كريم طبعه مثل جده سخي 

يا ربنا بالهنا جدد كساه)..

وهكذا نظل نلقنه الأسماء، لا سيما أسماء المواليد الجدد، فيصدح بما تجود به فصاحة لسانه، متنقلاً بين القوافي ليناسب كل اسمٍ وكل وصفٍ، مادحاً متغنياً، يتموج بين شفتيه اللحن الذي نحفظه جميعا، ونردد -بدورنا- كل ما يقوله فتسمعنا القرية بأسرها! 

يرتبط (الممسّون) بأهل القرية فهم يحفظون أسماء البيوت، بيت فلان ومنزل فلان، وغالباً ما يزورون القرى، ويقال إنهم كانوا يسكنون قُرانا ويتعايشون مع أجدادنا بطريقةٍ أو بأخرى، إلا أنه تم تهجيرهم بطرقٍ مؤسفة على حين غفلة من الضمير الإنساني، ولأسباب لا نزال نجهلها حتى هذه اللحظة؟!! 

"الأخدام".. تلك الطبقة الاجتماعية المهمشة كانوا أبطال حكايتنا الآن ومصدر سعادة لنا سابقاً، وبذلك فهم جزء من نسيج الإنسانية والمجتمع، حين تذكرتهم استحضرت للتو رواية الغربي عمران (حصن الزيدي) التي تناول فيها -وبطريقة مدهشة- مصير هذه الفئة المهمشة في حقبة ما قبل الستينيات، ومن أراد قراءة حياة أبطالٍ من الفئةِ نفسها وبأسلوب أجمل وتفاصيل أوسع فعليه بقراءة هذه الرواية.

* من صفحة الكاتب على الفيسبوك