"ليس من حقكم أيها الناس أن تطالبوا بأساسيات البقاء بل عليكم الذهاب إلى الجبهات لتستكملوا موتكم هناك".
هكذا يرى إعلام أخوتكم في المملكة! فأنتم -في نظرهم- كائنات لديها خيار واحد لا غير وهو المفاضلة والمفاصلة بين موتين.
وبعد أن حررتم أرضكم بصورة سريعة لا تتناسب مع المدى الزمني المفتوح للعاصفة ومقاييس الشقيقة وغير الباحثين عن الحقيقة، عليكم أن تذهبوا الآن وتحرروا أراضي الإخوة والجيران وتساعدوا في تمكين الإخوان ثم تعيشوا تحت ظلال سيوفهم (أمةً أولى) مسلوبة الأرض.
فلا أحد يغفر لكم هذا الانتصار المستعجل الذي أهديتموه إلى المشروع العربي الجاري تجهيزه في صالونات أصحاب المعالي والذي سيخرج للنور بعد ظهور "أعور الدجال الخرساني".
إذن ليس من حقكم أن تبحثوا عن لقمة عيش تشدوا بها أصلابكم أو حفنة ضوء تشعلوا بها لياليكم الجحيمية، فما يزال الانتظار طويلاً.
وكأنكم الآن بأول شهيد يصرخ من مثواه الأخير: ما متُّ لأجل هذا!
لقد انهالت الاستنكارات على رؤوس المحتجين، وأُصيب إعلاميون سعوديون بهيجان وكأنهم لا يجدون حرية كافية إلا في حديثهم عن الجنوب وأهله تاركين انطباعاً غريباً في عقول الناس بأن خروج المحتجين في عدن يوجعهم أشد من مسلسل الإرهاب.. ما دفع رئيس تحرير إحدى الصحف (المعرّبة) أن يشعرك عزيزي الصابر في زمن البؤس أنه واحد من دلالات الإعجاز الإعلامي السعودي حين قال: "لو اتجه المحتجون لمساندة الشرعية في مأرب أو في أي مكان آخر لكان أفضل لهم" أي الأجدر بالجياع إن لم يجدوا خبزاً أن يذهبوا إلى الجبهات ليتضح موتهم بالرصاص ويصبح أكثر فائدة من الموت جوعاً!
وبهذه الخفّة لا تجد عزيزي المتابع أي تفسير لائق سوى أن تضع ما كتبه في سياق متصل بالمقولات التاريخية الأشد طيشاً واستهتاراً بالمسحوقين باعتبار أن ذلك مجرد تنويع ملائم للحدث ووجه آخر أشد قسوة، من حيث نمط التفكير، لما نُسب قبل قرون إلى (ماري انطوانيت) وتسبب في رسم صورة قاتمة لها في ضمائر الأمم من خلال مقولة لم تقلها (؟). لكن هذا الإعلامي يطلق اليوم شيئاً مستفزاً وبحروف فاقعة السواد كالحبر الهندي وهو من جيل الفضاء المفتوح الذي منحه المال السعودي رفعة لا لشيء ولكن ليثبت بأن الأعالي يمكن أن تسكنها الخفافيش أيضاً.
لا لقمة عيش بلدي ولا بسكويت أو بريوش (ماري انطوانيت).. اذهبوا وحاربوا لكي يحتفي بدمائكم هذا الصحافي المرفّه المشحون بفوقية الانتماء إلى بلد ثري لا غير.
مع أن ذلك الانتماء حالة قدرية إما أن تكسب صاحبها أخلاقاً وتواضعاً أو استعلاء وانتفاخاً أجوف.
كم يتمنى المرء أن ينزل مثل هؤلاء إلى أرض الواقع وأن يتفاعلوا بعلاقة جدلية مع عناصر الأزمة ومعرفة جذورها والمكونات الفاعلة وليس التنظير المجرد من زاوية متلقي الأخبار الطازجة دون الغوص في الجذور.. وهو ما جعل الإعلام السعودي في كل أدائه ومقارباته رديفاً لسياسة (التيه والغموض) التي تُمارس بصورتها العفوية لا لهدف واع منشود وإنما لأسباب تجري في دماء الدولة العميقة.
إن تفسخ بعض الأجهزة والأدوات له مفعول المخدر على عصب الدولة، انعكس في تعاملاتها مع ملفات جيو سياسية شديدة الحساسية على أمنها ومستقبلها كدولة إقليمية مركزية واتضحت بشكل جلي في عاصفة الحزم بعد أن ترك العالم ملف اليمن بما حمل في يدها وتركته هي الأخرى بما اشتمل عليه من تعقيدات في أيدي (لجان وسفير...) حتى انحدر إلى هاوية مجهول قرارها وتركت العالم في سبع متاهات.
بعدد الطلعات الجوية للطائرات وبعدد التصريحات المملة للمتحدث باسم التحالف وبعدد النكبات الإعلامية التي تسبب بها اعلاميوها وقنواتها يتردد السؤال اليومي: ماذا لو كانت المملكة قد غطست عميقاً في الحيرة التاريخية المظلمة بداخلها أولاً وفتشت عن مسببات العجز في معرفة أوضاع الجار متعدد الأزمات، وانتجت شيئاً أكثر ثباتاً من الاتفاقات الهشة؟.