لطالما ارتبطت جماعة الإخوان المسلمين بمؤسسها حسن البنا، الذي أطلقها في مدينة الإسماعيلية المصرية عام 1928.
ولكن ما يجب استدراكه أن التنظيم الدولي للجماعة يعتبر اليمن هو أحد أهم معاقل التنظيم، سواء ككيان أو أفراد.
هذه الخاصية حظي بها اليمن منذ العام التالي لنشأة الجماعة، أي في العام 1929، عندما التقى محمد زبارة، بمؤسس الجماعة حسن البنا، وتدارس الرجلان نشر أفكار الجماعة، وبدأت الرحلة بالتوازي بين مصر واليمن، وكلا البلدين آنذاك تحت الحكم الملكي، لتنمو الجماعة وتنتشر سرياً وفي الظلام، حيث تزحف دون رقابة أمنية أو فكرية.
التقط "زبارة" من معلمه "البنّا" فكرة الجلوس في المقاهي الشعبية والحديث إلى الناس فيها، ففي المقاهي توجد عامة الناس، الذين ليس فيهم أهل الاختصاص في العلوم الشرعية، ومنها يمكن تمرير الفكرة الأصل حول المرشد العام، الذي لا يجد معارضة على أفكاره وأقواله.
ومن المقاهي يكتسب الشعبية بين الأهالي ويصنع شخصية المرشد والمصلح والواعظ.
بدأت تنتشر الجماعة وتستقطب الشبان، الذين بدورهم أخذوا يفرضون على المناشط الاجتماعية والدينية أسلوبهم المستحدث على المجتمع المصري واليمني، اللذين بطبيعتهما يريان في الوعّاظ الصلاح ويمنحهم المجتمع مكانة وحظوة.
وفيما حظيت التجربة الإخوانية المصرية بكثير من التدقيق، فإن العكس حدث في اليمن، حسبما يُذكر من تدقيق المؤرخين، وتُركت التجربة اليمنية دون سردية لطبيعة اليمن كبلد يعيش في هامشية المنطقة العربية.
هذه الحالة هي التي لم تبرز أول محاولة لجماعة الإخوان للوصول إلى السلطة عندما اغتيل الإمام يحيى محمد حميد الدين محمد المتوكل عام 1948، فيما سُمي بـ"ثورة 48"، وهي محاولة انقلابية دُعمت من الجماعة التي كانت تُسمى "الأحرار اليمنيون".
من اللافت أن التنظيم في مصر كان قد أصدر بياناً حول الحادثة باليمن، والتي شهدت تطورات متسارعة، فقد فشل الانقلاب وتسلم الإمام أحمد مقاليد حكم اليمن، وأصدر أحكاماً بإعدام المتورطين قبل أن تتدخل الجماعة ويعود كل من الفضيل الورتلاني وعبد الحكيم عابدين، وبعودتهما أغلق ملف "انقلاب 48"، وعاد التنظيم في اليمن لأنشطته، بل إنها تزايدت.
بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م عاد محمد الزبيري إلى صنعاء مع عدد من نشطاء تنظيم الإخوان وعملوا على توسيع نشر أفكار الجماعة وتأسيس العديد من المدارس الدينية، التي أسهمت في كسب أفكار الإخوان أرضية كبيرة باليمن، بالإضافة إلى الدعم القَبَلي.
كما أسهمت في تأجيج الصراعات الداخلية وظهور التيارات الفكرية التي كان كل منها يحاول السيطرة على دفة القيادة وإضفاء نكهته على المعطيات الجديدة للثورة اليمنية، مما أسفر عن أجواء مرتبكة سادها التوتر والحذر وسوء الظن.
وشارك الإخوان في مؤتمر الجند عام 1966م لتنقية الأجواء بين الأطراف المتصارعة في اليمن عقب قيام الجمهورية العربية اليمنية.
وقد حضر هذا المؤتمر المشايخ والأعيان والمسؤولون، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية عبد الله السلال، وكان عبده محمد المخلافي، المرشد الأول للإخوان، ممثلا للجماعة بالمؤتمر.
نجحت جماعة الإخوان فيما يمكن وصفه بـ"أخونة الدولة"، فلقد طغى الجانب الإخواني على مؤسسات التعليم والأمن والجيش، وشكل تمدد الجماعة فرصة لبعض الضباط لامتلاك الشجاعة السياسية، ومنهم إبراهيم الحمدي، الذي اغتيل في ظروف لم تكشف تفاصيلها، غير أن تنافس التيارات الإسلاموية "الزيدي والإخواني" وضعه بينهما، فتمت تصفيته جسدياً، وبقي منصب الرئاسة للقبيلة الزيدية بامتدادها التاريخي.
تسلم علي عبدالله صالح، قائد لواء "تعز"، مقاليد الحكم في اليمن عام 1978، ومنذ البداية تحالف مع جماعة الإخوان بذريعة مواجهة المد الماركسي الزاحف من عدن.
كانت الذريعة كفيلة لمد الرئيس "صالح" بدعم التنظيم المطلق، والذي كان تحت عباءة شيخ مشايخ قبائل حاشد، عبدالله بن حسين الأحمر.
قيادات الجماعة وجدت بعد تقارب الرئيس "صالح" والشيخ "الأحمر" كل المساحة الممكنة لتوسيع نفوذها ومنافسة الزيدية تحت العباءة القبلية، وهذا ما مكّن الجماعة من النفوذ أكثر، خاصة أن اليمن كان مستفيداً من المساعدات الخليجية، التي كانت تجد طريقها لجيوب مشايخ القبائل.
في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين خاض علي عبدالله صالح، بالتحالف مع الإخوان المسلمين، مواجهات عسكرية ضارية ضد اليمن الجنوبي، وتكبد الشمال اليمني خسائر فادحة في كل تلك المواجهات العسكرية مع حكام عدن.
وفي عام 1981 تقرر تشكيل لجنة الحوار الوطني برئاسة حسين المقدمي, وقد شكّل الإخوان المسلمين 25% من أعضاء هذه اللجنة، التي قامت بصياغة الميثاق الوطني، الذي خرج بصيغة وافق عليها الإخوان، خاصة أن القيادي البارز والسابق عبدالملك منصور كان له بصمات واضحة في تلك الصياغة.
الصحوة الإسلامية مثلت الفرصة المواتية للجماعة في نشر مدارس تحفيظ القرآن الكريم والمعاهد العلمية دون أن يستشعر علي صالح مدى ما كانت تروّج له تلك المدارس والمعاهد، حتى توّجت بإنشاء جامعة الإيمان في العاصمة صنعاء، وفيما كان النظام اليمني يقدم ما يمكنه لدعم ما يسمى "المجاهدين" في الحرب الأفغانية لنيل الرضا الأمريكي كانت الجماعة تتمكن من مداميك الدولة اليمنية.
مع قيام الوحدة اليمنية عام 1990، أعلن الإخوان عن تشكيل حزب سياسي باسم "التجمع اليمني للإصلاح"، وفقاً لقانون الأحزاب، وما انضم إليها من فعاليات سياسية إسلاموية، وشيوخ قبائل وضباط وعسكريين.
فيما كان اللواء علي محسن الأحمر، وهو ابن عم "صالح"، يمثل المؤسسة العسكرية، وقد كان دور اللواء "الأحمر" بارزاً في قتال الجنوبيين عندما نشبت الحرب بين علي صالح ونائبه علي سالم البيض عام 1994.
وللحرب إفرازاتها، فقد اصطف الإخوان المسلمون والقبائل يقاتلون بشراسة ضد الجنوبيين حتى تم فرض سياسة الأمر الواقع في 7 يوليو 1994.
يقول الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في مذكراته:
"تم تأسيس الحزب بطلب من علي عبدالله صالح، بعد الوحدة، وذلك ليكون رديفاً للمؤتمر، ويضم مجموعة الاتجاه الإسلامي، وذلك في مواجهة الحزب الاشتراكي، الذي -بعد دخوله الوحدة- سيضم إليه الأحزاب اليسارية في الشمال من ناصريين وبعثيين، وسيشكلون كتلة واحدة أمام المؤتمر، ولهذا فلا بد من وجود كتلة مقابلة شمالية".
بنهاية ما يسمى "حرب الردة والانفصال"، بحسب فتاوى علماء اليمن، كان حزب الإصلاح يمتلك نصف السلطة السياسية والجيش ومساحات جغرافية واسعة مثلت فيها أرض الجنوب المواقعَ المثالية لبناء معسكرات الأفغان العرب.
وتذكر وثائق، نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، أن اليمن شكّل الممر الآمن للعائدين من أفغانستان، وأنه من بعد تلك الحرب كان زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، قد قرر استغلال تلك المعسكرات لإنشاء ما سمّاه "الجيش الإسلامي".
لم تكن عملية استهداف المدمرة الأمريكية "إس إس كول" في خليج عدن عام 2000 غير الإشارة الأخيرة لما وصل إليه تنظيم "القاعدة" في اليمن من قدرات هائلة، فقد حصلت جماعة الإخوان في اليمن على ما هو أكثر مما حصلت عليه بقية أفرع الجماعة في دول أخرى، بما فيها السودان، الذي كان التنظيم يسيطر فيه على السلطة السياسية منذ عام 1989.
التنافس داخل البيت الزيدي عاد للظهور بعد موت الشيخ عبدالله الأحمر، الذي تصاعد الخلاف من بعده بين الرئيس "صالح" وأبناء الشيخ الذين كانوا يشعرون بقوة نفوذهم.
الصراع تفاقم مع دخول موجة الفوضى العربية في نهاية 2010، ومع اشتداد الصراع بين حزب الإصلاح و"صالح" كانت التحالفات في داخل البيت الزيدي ترجّح طرفا على الآخر، فتحالف "صالح" مع الحوثيين دون اعتبارات واقعية للقوة، التي يمتلكها خصومه، في حين أن جماعة الإخوان تحالفوا مع "الحوثي" تحالفاً عقائدياً أعمق من قدرة "صالح" ودولته على مواجهته.
الحلف الحوثي الإخواني كان أوثق لارتباطه بالقوى المتنافسة في الشرق الأوسط بعد أن توافق التنظيم الدولي للإخوان المسلمين مع الحرس الثوري الإيراني على تثبيت الوحدة اليمنية لاستنزاف السعودية، من خلال الحزام الجنوبي للجزيرة العربية، رداً على موقف العاهل السعودي، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الذي دعم رغبة الشعب المصري في إسقاط حكم الجماعة في مصر.
لم تتراجع "الإخوان" في اليمن عن تكتيكاتها، حتى مع انطلاق "عاصفة الحزم" عام 2015، واستطاعت التموضع في واحدة من أصعب المراحل التاريخية، وأن تمتص المرحلة الأولى التي شهدت تحرير عدن والمكلا، وانتهزت فرصة مواتية لتجرد خالد بحاح من مناصبه وتدفع بشخصية علي محسن الأحمر، الذي تحمل مسؤولية تمرير أجندة التنظيم الدولي، والاحتفاظ بمركزية اليمن كلاعب استراتيجي للتنظيم الدولي للإخوان، واستمرار اليمن كخيار آمن في حال تكررت "المحنة الكبرى"، التي يصفها التنظيم بأنها المرحلة الأخطر في تاريخه عندما زجّ الرئيس المصري جمال عبد الناصر بقيادات التنظيم في السجون.
بشكل عام، حققت الجماعة مكتسباتٍ كبيرة من سنوات الصراع، فهي بشكل مباشر باتت أقرب إلى السلطة السياسية، وتحافظ مع الحوثيين على المسافة الصفرية في استنزاف العالم العربي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وتمتلك زمام كثير من الأطراف المؤثرة، وقادرة على أن تلعب أدواراً متقدمة وأكثر تأثيراً في السنوات المقبلة.
هذه هي الرواية الأخرى للإخوان، وهي الأكثر سوداوية، والتي لا يريد أحد سردها خشية ما يمتلكه التنظيم من قوة سياسية وإعلامية ستعرض كل متناوِل لها لحفلة شتائم ستملأ الآفاق، فهذه هي قوتهم التي يهددون بها خصومهم بقتلهم معنوياً وفكرياً، فهذا ذراع من أذرع الأخطبوط الإخواني المُمسك بمطارق إعلامية تؤلم المفكرين والصحفيين كلما سردوا شيئاً من الرواية المحرم على الناس معرفتها.
*نقلا عن "العين الإخبارية"