محمد العلائي
"مقبرة الغزاة" باعتبارها أرضاً معاقة سيئة التكوين
هناك بُلدان، كاليمن وأفغانستان، تفاخر بكونها مقبرة لـ الغزاة والامبراطوريات، لكنها ستتوقف عن الفخر بذلك ما إن تعْلَم بأن الشيء الذي يجعل منها مقبرة للغزاة والإمبراطوريات الأجنبية هو نفسه ما يجعل منها مقبرة لأي دولة (وطنية) قوية تنشأ وتستمر على كامل أراضيها.
وباعتبارها مقبرة، فإن ذلك قد يشير إلى عيب خطير في تكوينها، إذ يتسبب هذا العيب في تقويض إمكانية قيام حياة مستقرة من ذلك النوع الذي يسمح بتشكُّل الحضارات الفذة، بصروحها العظيمة وأعمالها الخالدة، حتى ولو تم ذلك على يد الغريب الذي لن يظل غريباً إلى الأبد.
غير أن هذه البلدان لا تهزم الأجنبي والغازي فقط بالجدارة العسكرية المحضة لسكانها، بل لعلها ما كانت لتهزمه إلا بما تتصف به من وعورة كريهة في طبيعتها، ونقص فادح في الموارد، كل ذلك يتفاعل مع التناقض المزعج في بنيتها التضاريسية التي نَجَمَ عنها تناقض في الأهواء وفي المصير الاجتماعي.
والمفارقة البغيضة هي أن نكتشف بأن هذه التركيبة القاسية والمتفسخة هي التي تتضافر دائماً لتقهر إمكانيات بقاء دولة مركزية وطنية أو تعيق نشوءها من الأساس أو تسرِّع من انحلالها.
الأرض النابذة للغريب ليست بأقل نبذاً لأهلها.
والأرض العاجزة عبر القرون عن مراكمة روح مشتركة دائمة بين مجموع سكانها، هي أرض معاقة فعلاً حيث تتجلى إعاقتها كذلك في عجزها المؤلم عن امتصاص روح الغريب وتوطين أثمن ما فيه بإضافته إلى أثمن ما فيها.
والأرض "مقبرة الغزاة" ليست هي نفسها الأرض المنيعة تماماً على الغزو، بل هي الأرض بلا أسوار، الأرض التي من الممكن دائماً النفاذ إليها، فعبقريتها تكمن في أنها تدع الغازي يشق طريقه إلى عمقها بأقل قدر من الصعوبات، ثم تباغته في وقت لاحق بإظهار شخصيتها المذهلة كقبر مظلم لا يشبع.
إنها تقاتل أحلامها وأحلام الغريب بسلاح واحد يتمثل في انقسامها وتفسخ عناصرها، وليس بسلاح الوحدة الداخلية ومتانة التركيب.
يمكن أن تحب كون بلدك "مقبرة لـ الغزاة"، لكن في حالة واحدة: عندما يعني ذلك في كل مرة أن هذا البلد سيصبح بدون الغريب الغازي جنة لأبنائه. أما أن يكون بلدك مقبرة دائمة تلتهم الغزاة والدول وكل فرص الحياة الجيِّدة، وفي نفس الوقت يكون جنة دائمة للفوضى والتمزق والشقاء، فلن يكون لديك عندها أي سبب مقنع للفخر.
وهكذا، فهذه الأوطان هي سيئة من وجهة نظر الدولة والاستمرارية المجيدة للحضارات، أي من وجهة نظر أكثر ما نفتقده اليوم في اليمن، إلا أن هذه الأوطان ربما تكون جيدة ومثالية من وجهة نظر أشياء أخرى لا نعلمها.
من يدري؟