محمد العلائي
الصراع من موقع دولة شرعية مع حركة تمرُّد
ما مِن تمرُّد مسلَّح على القانون/ الدولة إلَّا ويخبِّىء في طياته، منذ انطلاقه، بذرة قانون مضاد.
البذرة قد تنبت وتتقوَّى فتصبح دولة = قانون)، وقد لا ينتج عنها سوى أوضاع كابوسية غامضة عديمة الشكل، وأبخرة فاسدة تخنق الأنفاس، (كما هو حالنا حتى هذه اللحظة منذ انهيار الدولة اليمنية تحت ضربات سلسلة تمرُّدات قاتلة).
المؤكَّد أن نمو التمرُّد لا يكون إلّا في اتجاه هادم لدولة قائمة.
عندما نتحدث عما قد يؤول إليه التمرُّد، حريٌّ بنا أن نضع لفظ (سلطة) بدلاً عن لفظ (دولة).
ففي هذا العصر لا تكون السلطة "دولة" إلا إذا استطاعتْ أن تمارس سيادتها على كامل الأراضي محلّ النزاع في البلد الواحد (1)، وإذا نالت اعتراف مجتمع الدول (2).
ومع ذلك، لا مشكلة في استخدام لفظ الدولة بمعنى واسع يضم كلاً من سلطة الأمر الواقع والدولة الشرعية المعترف بها من مجتمع الدول.
تمييزاً له عن الأعمال الجنائية الخارجة على القانون، فإننا نقصد بـ التمرُّد هنا كل فعل منظَّم ينطوي على خطاب سياسي وتاريخي ("خطاب سياسي" بمعنى الإعلان عن قائمة وعود وبرنامج عمل، وهذا يشبه قليلاً ما يسمِّيه بن خلدون بـ"الدعوة"، مع شيء من التظلُّم أو الاحتجاج، ونعني بـ"الخطاب التاريخي" رواية حول الماضي والحاضر، مع مجموعة تأويلات ورموز مرجعية خاصة)، بحيث يكون هذا الخطاب في مجمله على تضاد مع الخطاب التاريخي المؤسِّس للدولة القائمة: منطقها القانوني والشرعي، رموزها، مصادرها الزمنية المرجعية.
أحياناً قد نسمِّي هذا الفعل "ثورة".
لا ينبغي أن يخيفكم الاسم.. فكلمات مثل "ثورة" و"قانون" هي في الأصل محايدة أخلاقياً، فقد تكون ثورة جيدة وثورة بغيضة، قانون جيّد وقانون بغيض. الأمر يتوقف على الزاوية التي ننظر منها إلى الأشياء، وعلى اعتبارات الزمان والمكان.
في العادة، لا يمكن أن يُحْسَم الصراع من موقع دولة شرعية مع حركة تمرُّد تحمل الصفات المشار إليها، فقط بواسطة السجال اللفظي القانوني والأخلاقي، أي ليس بالبراهين، بل بالقوة الحافظة للقانون.
قد يصاحب القوة سجال لفظي وتبرير قانوني وأخلاقي، أي قد تكون القوّة مصحوبة بالسياسة، السياسة بوصفها خطابا وإقناعا عند قدامى اليونانيين.
عندما تتكافأ البراهين، فإن الوقائع/ الأفعال ترجِّح برهانا على آخر.
وإذا تكافأت الوقائع أيضاً، فقد تحدَّدتْ الحدود بين كيانات منفصل أحدها عن الآخر.
في عالَم اليوم، إذا انتصر التمرد على الأرض، فانتصاره لن يجعل منه دولة بالضرورة ما لم يحصل على اعتراف مجتمع الدول.
انتصاره الجزئي قد يصنع منه كياناً معزولاً داخل بقايا دولة.
وقد يصبح التمرُّد سلطة على نطاق جزئي تترنَّح في مواجهة تمرُّدات وسلطات محلِّية متكافئة معه في البراهين، حيث كل واحد منها يحمل بذرة قانون مضاد للآخر.
وإذا حافظتْ الحكومة الأصلية على اعتراف اسمي من مجتمع الدول بينما تخسر أراضيها لصالح التمرُّد، أو لصالح أكثر من تمرُّد، فبقاء هذا الاعتراف الذي تحظى به سيكون معلَّقا فقط بغياب قوة بديلة مؤهَّلة -من جميع النواحي المعروفة على الإطلاق- لحيازة اعتراف مجتمع الدول.
ليحصل التمرُّد بعد انتصاره على الاعتراف به كدولة قانونية في عالَم اليوم، يجب أن يكون المتمرِّد -تركيباً ونهجاً وخطاباً وتوقيتاً- من النوع الذي يشجّع على التعامل معه والاعتراف به من أقرب الدول إلى أبعدها.
كم مضى من الوقت على استيلاء حركة طالبان على السلطة في أفغانستان؟
في عام 1962، حظي النظام الجمهوري الذي تم الإعلان عنه في صنعاء ومنذ اليوم الأول، باعتراف كلّ من مصر، لبنان، سوريا، العراق، السودان، الجزائر وتونس.
وفي الأول من أكتوبر عام 1962، اعترفتْ حكومة الاتحاد السوفيتي بحكومة الجمهورية العربية اليمنية وهي الدولة العظمى الأولى التي تعترف بالجمهورية الفتية. واعترفت بها في الأسبوع الأول من الثورة الدول الاشتراكية الأخرى بما في ذلك الصين.
وبعد فترة وجيزة من نفس العام، حصل النظام الجمهوري اليمني على اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية، إذ خالفتْ واشنطن بذلك موقف حليفتها المملكة العربية السعودية التي تأخَّر اعترافها إلى العام 1970.
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك