تعز.. مشاهد على رصيف الفجر وأوجاع المدينة
السياسية - Monday 01 July 2019 الساعة 11:41 pm
الخامسة فجراً الزمان.. والمكان شارع جمال وسط مدينة تعز. مشاهد متعددة تصادفك وأنت تسير نحو جولة المسبح، المربع الذي يعد حالياً قلب المدينة المحررة.
من يعرف تعز أو عاش فيها حتى قبل عام 2010 يدرك مدى النزيف المرعب الذي شهدته روح المدينة، لأن عام 2011 شكل بداية التدحرج إلى المجهول رغم أن الوضع كان نسبياً حتى منتصف العام 2014.
لن تشاهد شارع جمال نظيفاً كما كان وتشع الأضواء من أعمدة الإنارة المنتصبة وسط رصيفة.. بل أكواماً من القمامة تبدأ بالنمو ليلاً ولا وجود لعمال النظافة الذين كانوا لا ينامون ليلاً وهم يكنسون وجه المدينة من نفايات ساكنيها.
على أبواب البوفيات تشاهد أكياساً بلاستيكية ممتلئة بالروتي حيث موزعي الأفران يضعون حصة كل بوفية على بابها وما إن يفتح مالك البوفية الباب حتى يجد حصته ليبدأ رحلة طلب الرزق منذ خروج المصلين من المساجد.
جنود ومسلحون وسائقو دراجات نارية يتواجدون حول جولة المسبح قرب بوفية المليك الشهيرة التي تعمل بدوام 24 ساعة وتعد مقصداً لعشاق السهر والباحثين عن لقمة تسكت صرير أمعائهم الخاوية.
غابت حافلات النقل التي تتبع المصانع والشركات والتي كانت تبدأ بجمع العمال والموظفين من ضفتي شارع جمال منذ الفجر.. مشهد جميل غاب عن الأعين لم تعد الحافلات تمر مكتوباً عليها أسماء المصنع أو الشركة من داخل المدينة إلى الحوبان والربيعي وحتى البرح حيث يتواجد مصنع اسمنت البرح.
وبدلاً عن هذه الحافلات حضرت سيارات لاند كروزر بموديلات الثمانينات تصطف على جانب شارع جمال تنتظر من يغادرون تعز إلى الحوبان عبر طريق جبلية طويلة ومرهقة تمر عبر الضباب المسراخ الأقروض الدمنة وبعدها التوجه نحو الحوبان، وبعد أن كانت المسافة إلى الحوبان من ذات المكان في جولة المسبح تحتاج إلى نحو 10 دقائق أو ربع ساعة حال كان الطريق مزدحماً.. يقطع حاليا في 7 ساعات وتزيد أحيانا، حسب ظروف الطريق.
الحوبان هي منطلق من يخرج من تعز إلى مناطق الشمال والغرب، بينما من التربة تبدأ الطريق إلى الجنوب والشرق وبحصارها وقطعها للطرقات تتعمد المليشيات إعادة الناس إلى القديم وكأنها تريدهم أن يعيشوا أيام حكم الإمامة البغيضة..
إلى جانب فرزة المتجهين إلى الحوبان هناك فرزة أخرى هي فرزة البقع والتي تنقل عبر حافلات حديثة من يريدون الذهاب إلى جبهات صعدة للالتحاق بالوحدات العسكرية هناك.. البقع، البقع، هو الاختصار لنداء جمع المغادرين إلى ضفة الموت في أقصى شمال اليمن.. كثير منهم لا يعود وتكون لحظات صعوده إلى الحافلة في شارع جمال لحظات الوداع لمحافظتهم وبلادهم وللحياة بكلها حيث لا يعودون إلا جثامين ومنهم حتى جثته لا تعود ويدفن في تراب نجران جنوب المملكة العربية السعودية.
مشاهد العمال والطلاب والموظفين وهم يقبلون على الحياة بنهم كبير في مدينة تعز تحول إلى صور للهاربين من الموت إلى الموت. من الموت جوعا ومرضا وفقرا في تعز الى الموت على حدود السعودية.. تحول مخيف أصاب المدينة والناس في تعز. تموت تعز ولم يبق فيها سوى مجاميع من المسلحين يسمون أنفسهم "عسكر".
تعز كانت مدينة تضج بالحياة والحركة والتجارة والتعليم والسياسة والرياضة والأمن والهدوء.. تفتقر تعز للمستشفيات. غادرها الأطباء بعضهم إلى إب وعدن ومأرب وصنعاء وآخرون إلى دول الخليج بعقود عمل مربحة.. لا تجد في تعز طبيب باطنية مختصاً استشارياً مثلاً، ولا يوجد فيها طبيب امراض جهاز تنفسي ولا طبيب أطفال غير واحد فقط تتقاسم كل المدينة طاقته ووقت تواجده في المستشفى.
يبيع المرضى أرضهم وممتلكاتهم ويذهبون إلى صنعاء ويموت من لا يستطيع الخروج من تعز ولا يملك ما يبيعة.. عطل نهم الاستحواذ الحزبي أكبر مشافي المدينة وفقدت بقية المشافي الدعم الذي كانت تحصل عليه لمزاولة عملها، ومقابل هكذا وضع صحي متردٍ تتكاثر الصيدليات ومحلات الصرافة والمسلحون وأكوام القمامة.
حين تشرق الشمس وتدب الحياة في الشوارع تدرك كم تعز مرهقة وكئيبة وبلا روح.. وحين تستعيد أياماً خلت وسنوات كانت.. تشعر بمرارة كيف تحولت تلك الحسناء المكتظة حياة وضجيجاً إلى بقايا روح.. مدينة وناس وجغرافيا.