تعرفون نظرية ابن خلدون حول "الدولة"، ما لا يعرفه إلا القليل هو نظريته حول "الثورة".
لكن ما نجهله أكثر هو أن نظريته عن الثورة متداخلة مع نظريته حول الدولة، بل تقع في صميمها: فما يشترطه ابن خلدون للنجاح في تأسيس دولة جديدة، يشترطه أيضاً للنجاح في ثورة لنقض دولة قائمة والقيام على إثرها.
الشرط المشتَرَك في الحالتين هو: العصبية والشوكة.
فالثورة الناجحة هي التي تفضي إلى دولة ناجحة، والدولة الناجحة في كل زمان هي التي تعبِّر عن نفسها على الأقل في شكل فعَّال من النظام المُستَتِب.
ولهذا لم يكن ابن خلدون على استعداد للشعور بالتعاطف مع "الثائر" غير المقتدر على إمضاء أمره.
وكان يصف الثوار من هذا النوع بـ الموسوسين والمأزومين الذين "يأخذون أنفسهم بإقامة الحق ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية، ولا يشعرون بمغبّة أمرهم ومآل أحوالهم"، (المقدمة، ص320، ج1).
فالثائر الجدير بالتعاطف هو الذي لديه القدرة على النجاح، وهو لن ينجح إذا لم يكن على علم بأن "أحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من وراءها عصبية…"، (ابن خلدون، المقدمة، ص319، ج1).
وما يشترطه ابن خلدون لنجاح الثورة والدولة، يراه كذلك ضرورياً حتى للنبوءات والدعوات الدينية، فهي لن تجد إلى النجاح سبيلاً ما لم تكن مستندة إلى "عصبية" تنصرها وتنهض بأعباء تمكينها على الناس.
لكن ما هي "العصبية"؟
ولماذا تحتلّ هذه الأهمّية القُصوى؟
انسوا كل ما تظنون أنكم تعرفونه عن هذا المفهوم.
تعاملوا مع كل ما يحقِّق الغرض الخلدوني من العصبية على أنه عصبية.
هذا يقتضي تحرير الكلمة من الدلالات الأخلاقية السلبية التي التصقتْ بها في الأزمنة الحديثة.
فكِّروا فقط على أن "العصبية" كناية عن القدرة.
فهي تحيل عموماً إلى الفعل القوي المتضافر لأناس يشتركون في نعرة واحدة، وغاية واحدة، ويتفقون في الأهواء والمطالب.
وهذه السمات يمكن مصادفتها في أي فعل جماعي منظَّم تقف خلفه إمّا رابطة ثورية وطنية، أو تنظيم عسكري أو حزبي، أو شعب، أو حلف قَبَلي.
إذا فهمنا فكرة "العصبية" على هذا النحو المرن، سنكتشف أن نظرية ابن خلدون لا تشُذّ عن أغلب نظريات نشأة الدول، القديم منها والحديث.
بالعودة إلى موقف ابن خلدون من الثورات الفاشلة، هناك حادثة حسَّاسة في التاريخ الإسلامي وضعتْ هذا المؤرخ العظيم في مأزق:
ثورة الحسين على يزيد بن معاوية.
لم يستطع ابن خلدون أن يمجِّد تلك الثورة، لأنه كما أشرنا لا يمجّد الثورات الفاشلة، ولم يستطع أن يهجوها كما يهجو الثورات الفاشلة، لأن ذلك سيجلب عليه السخط والنقمة.
عوضاً عن ذلك، آثَر السلامة وسلكَ طريقاً ثالثاً، طريقاً تفسيرياً ذا طابع توفيقي بلا حفاوة ولا تنديد.
يمكن تلخيص قراءة ابن خلدون لتلك الحادثة كالتالي:
قرر الحسين الخروج على يزيد، بعد أن بعثتْ له الشيعة من أهل الكوفة "أن يأتيهم فيقوموا بأمره".
رأى الحسين في نفسه القدرة على ذلك، معتمداً على ظنه في أهليته وشوكته، "فأما الأهلية فكانت كما ظنّ وزيادة، وأما الشوكة فغلط يرحمه الله، لأن عصبية مُضر كانت من قريش، وعصبية قريش في عبد مناف، وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس".
يقول ابن خلدون إن هذه الحقيقة عن مكانة بني أمية في مُضر كانت قد نُسيتْ أول الإسلام عندما انشغل الناس عنها بالذهول بالخوارق وأمر الوحي، "حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة، تراجع الحُكم [بـ الدين] بعض الشيء للعوائد، فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت، وأصبحتْ مُضر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل"، (المقدمة، ص397، ج1).
يصل ابن خلدون إلى القول بأن الحسين اجتهد وأخطأ، لكن هذا الخطأ يقتصر على أمر دنيوي، وبالتالي فهو "شهيد مثاب، وهو على حق واجتهاد، والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حقّ أيضاً واجتهاد".
وهكذا فقد اعترف بفضل الحسين وعدالته، موافقاً أهل السُنّة في القول بفسق يزيد.
غير أنه لا يعتبر الفضل والعدل الشخصي المجرد ضمانة بالفوز في صراع من هذا النوع دون شوكة وعصبية، أي بدون قدرة.
تماماً هذا ما يذهب إليه ابن تيمية:
أغراض "الإمامة" إنما تحصل من خلال القدرة على التحقُّق المادي بمساعدة "الشوكة/ العصبية".
الادعاء بالفضل، دونما قدرة، لا يجعل من المدّعي إماماً وسلطاناً.
ثم رأى ابن خلدون في حركة عبدالله ابن الزبير ما رآه في حركة الحسين بالضبط: صحّة الأهلية المجردة مع الغلط والغفلة في مسألة "الشوكة".
كان يرفض في الحالتين القول بخطأ طرف على طرف، ما عدا القول بفسق يزيد، لكنه -مثل غالب أهل السُنّة- كان يعتقد أن النقض الأخلاقي للأهلية بحد ذاته لا يجعل النقض المادي للأهلية (من خلال الخروج والثورة) ممكناً.
الخروج نفسه/ التمرد/ الثورة، في نظر ابن خلدون، ليس بالأمر الخاطئ دائماً وعلى نحوٍ مطلق، ولا هو بالأمر الصائب دائماً على نحوٍ مطلق، فهو إما ناجح أو فاشل فقط.
وحتى في حالة خروج عبدالله بن الزبير على الخليفة عبدالملك بن مروان، يقول: "الكل مجتهدون محمولون على الحق في الظاهر".
وفي صراع علي ومعاوية، رغم إقراره الخجول بخطأ معاوية، يقول: "وإن كان المصيب عليّاً فلم يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل، إنما قصَدَ الحقّ وأخطأ.
والكل كانوا في مقاصدهم على حقّ"، (ابن خلدون، المقدمة، ص386، ج1).
يتضح من مجمل كتابات ابن خلدون أنه يأخذ على الثورة الفاشلة كونها في أسوأ الأحوال طريق إلى التهلكة من غير نفع، حتى لو كانت المقاصد سليمة.
لم يكن موقف ابن خلدون من الثورات كما أراد علي الوردي أن يفهمه باعتباره علامة على النفاق والانتهازية والواقعية المتجردة من الأخلاق. (أنظر: علي الوردي، "منطق ابن خلدون"، 213).
لا أظن ابن خلدون سيناصب ثورة تحولت إلى دولة ومُلك العداء.
كانت لديه أخلاقياته الذاتية بلا شك، ولكنه لا يملك أن يفرضها على التاريخ الموضوعي مثلما يبدو عليه.
كل ما في الأمر أن حماسته كانت ضعيفة تجاه الأفعال العامة الطائشة، المستخفة، غير المحسوبة.
وخلافاً لما ألمح إليه علي الوردي، فمنطلقات ابن خلدون لا تتفق بالضبط مع منطلقات الفقهاء المسلمين الذين يقولون بتحريم العصيان والخروج على "ولي الأمر" لأسباب دينية.
إن فتور ابن خلدون تجاه الثورات الفاشلة يستند غالباً إلى أسباب هي أقرب لأسباب رجل الدولة والمؤرخ والسياسي والمفكر التجريبي الذي لم يمنعه كونه فقيهاً مسلماً على المذهب المالكي من الاحتفاظ بنظرة مادية إلى وقائع التاريخ قائمة على السببيّة.
لم يكن ضد "المبدأ الصالح" الحائز على شروط التحوّل إلى واقعة مادية ممثَّلة في الدولة، ولكنه كان يلفت عناية أصحاب هذا المبدأ إلى أن الصلاح -دون عصبية وشوكة، دون قدرة- لا يمكن الركون عليه لطلب المُلك والسلطان.
يقول هذا مع أنه كان خير من يعلم أن الثورات الناجحة والفاشلة لن تكف عن الحدوث.
لعله كان يطوي في نفسه تحيّزاً إيجابياً لصالح الوضع القائم.
وربما كان بالمفهوم الحديث "محافظاً"، إلا أنّ ما يعلمنا إياه ابن خلدون هو أن المقياس الأخلاقي المجرَّد قد يشهد أحياناً لصالح الثورة والدولة بالتساوي.
ونظراً لصعوبة الفصل في أيهما الأحق، يصبح المقياس المادي هو الفيصل: النجاح والفشل.
للنجاح شروطه العمليّة مثلما للفشل شروطه.
و"النجاح" و"الفشل" في الأساس هما قيمتان محايدتان من المنظور الأخلاقي، خارج منطقة الخير والشر، الحق والباطل.
ومع ذلك، فـ ابن خلدون كان يرى أحياناً في النجاح المادي الذي يتجسَّد من خلال حيازة المُلك العظيم والسُلطان، علامة مُعتَبرَة من علامات صلاح المبدأ.
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك