عبدالستار سيف الشميري
المخا موسم البن الثاني وموعد التنمية
مهاد..
المدن لها أرواحها ولها وجدانها الخاص الذي يبقى مضيئا رغم تقادم الأيام ونوائب الدهر..
والمخا لها روح جاذبة فيها من مقامات الأنس والصبا ما يسمع ويرى ويحس وما يمكن إدراكه من التفاصيل الصغيرة..
المخا مدينة قريبة من القلب والرب كلها كذلك ناساً وبحرا وشجراً ودروباً وذكريات.
والمدن تولد تعبيرًا عن ظروف مادية وروحية وسياسية، ويزيدها الاقتصاد وأنساق الاتصال مددا إذا انبعثت نية التنمية والتطوير.
المبتدأ..
ما هو مؤكد قطعا، أن القوة التي تفرضها طبيعة المكان وقوة الإنسان وفطنته وقدرته في مغالبة الطبيعة واستثمارها لصالح الإنسان والتنمية والتدافع مع الفقر والحرمان والضعف هي التي تنتصر في النهاية..
ولقد نشأت مدينة المخا على ضفاف المياه الزرقاء للبحر الأحمر وظلت لمئات السنين محددة بمساحتها وعدد سكانها لا تزيد ولا تنقص إلا بحدود قدرتها على التواصل والتموين للبن والسمك وغيره من مينائها الأشهر..
كانت تهب الحياة والنشوة والبهحة لبقاع الأرض البعيدة، تستقبل المتاع وتصدر البخور والعنبر والعود والبن حتى اشتهر البن باسمها موكا.. المدرج على قائمة المشاريب الأكثر شهرة عالميا..
الخبر..
المدينة اكتسبت التاريخ اكتسابا وتحولت من قرية إلى مدينة..
مر منها جنود الله والشيطان معا وتسابق إليها التجار والشطار والمهربون..
لم يكن تحول القرية إلى مدينة مجرد تغيير في الحجم والقياس، وإن كان قد انطوى على هذين العاملين، بل إنه كان على الأصح تغييرا في الاتجاه والهدف فرضه الموقع المتميز على باب مندب..
يقتات أغلب سكانها من خيرها ولا يحتاجون أحدا وإن كان الفقر قد تربص بها وبهم فترات من التاريخ..
الجملة..
ميناء المخا أقدم الموانئ في شبه الجزيرة العربية، وربما كان السوق الرئيسية لتصدير القهوة بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر..
تصدرت قهوة الموكا والموكاتشينو وحازت اسم المدينة وبقي اسما خالدا وماركة مسجلة حتى اليوم..
وإن كان الميناء القديم ضاربا في التاريخ ويعد من الموانئ القديمة التي ذكرتها النقوش الحميرية باسم (مخن) بحسب نقوش يمنية قديمة بخط المسند، مثل نقش للملك «يوسف أسار» المشهور «بذي نواس».
لاحقا تم الانتهاء من تشييد مينائها الجديد في عام 1978 بواسطة شركة هولندية.
تأتي أهمية الميناء نتيجة لقربه من الممر الدولي بمسافة 6 كيلومترات تقريبا بما يعادل 3.2 ميل بحري.
"ميناء المخا هو الميناء الذي انطلقت منه أولى عمليات تصدير البن من اليمن إلى بقية دول العالم في منتصف القرن الـ15 الميلادي، وتحديدا في العام 1450م، كما يؤكد جارفيلد كير مؤسس ومدير «موكا بوتيك 1450» في دبي، والذي يؤكد أنه اختار هذا الاسم ليوثق التاريخ الذي سافرت فيه القهوة لأول مرة من منطقة الشرق الأوسط إلى بقية دول العالم".
السياق..
بابتسامة يملؤها الدفء يستقبلك سكان المخا على الدوام فتشعر بالراحة والسكينة والأمان..
يغريك شاطئ المدينة اللؤلؤي بالاستلاقاء تحت مظلّة تقيك حرارة شمسها التي تجعل من نهار المخا رحلة مغامرات تستمر حتى انسدال ليلها المرصّع بالنجوم يعلمك أن الزمن يسير على أصابعها وأن الشمس تتخذها صديقا مفضلا لا تستطيع فراقه، متلازمة الشمس والبن والسمك ثلاثي المخا الذي لم يتغير ويرفد كل منهم الآخر بوهج منه وإن كان البن والسمك قد وهبا المدينة وأهلها الكثير فإن استثمار الشمس كطاقة مؤجل ولعله قريب..
هدوء السكان ملفت إلا من حراج بيع الأسماك حيث الصيادون يعرضون جواهرهم من بحرها العميق دون طمع أو جشع..
على سبيل الختم:
ها نحن اليوم نبحث عن المدينة التي أضعناها ذات يوم وكانت حلما يأسرنا كي نراها كما نحب..
تعود المخا اليوم وتحاول أن تتنفس البن في موسمه الجديد تنمية ومشاريع خدمية ومطارا وطريق اتصال يعبر منها إلى مدينة تعز وغيرها..
تبدو المخا اليوم وكأنها الوطن الذي يحتفي بالجميع في زمن الحرب الذي أصبح لكل مدينة عصاباتها وتجار حروبها الذين يفتشون الهواتف ويحدقون في العيون ويبحثون في الانتماء الطائفي أو الديني أو الحزبي.. إلا المخا التي تستقبل الجميع ولا تبحث عن الأعداء فهي ترى الجميع أصدقاء وأبناء وتجد أنها بيت الجميع..
وإذا استمر أمرها في هذا الطريق فلا شك أنها ستكون كعبة الناس وقبلة الحالمين بشيء من الأنس والأمان وليس ذاك بجديد ولا بعيد على مدينة تتنفس التسامح وتتوق للحياة..