لم يصدق بطل العالم الشهير في لعبة الشطرنج "غاري كاسباروف" ما حدث له أمام الحاسوب "ديب بلو" في 11/ 5 / 1997م، فقد انتصر عليه هذا الجهاز الأصم في هذه اللعبة الذكية، ليصبح تاريخ تلك المواجهة إشارة لافتة على إمكانية تفوق الذكاء الصناعي على الذكاء البشري.
وبقدر ما كانت تلك النقلة التكنولوجية الرقمية مثيرة للإعجاب والانبهار. أثارت الكثير من علامات التعجب والاستفهام القلقة حول مستقبل علاقة الذكاء الاصطناعي بالإنسان، وبشكل فرض نفسه بقوة وجدية على طاولة العلم والفكر والثقافة والسياسة وأدبيات الخيال العلمي.
سبق للثورة الصناعية أن أثارت قلقا مشابها، في القرن التاسع عشر، بتدشينها آلات ضخمة، الواحدة منها أقوى وأسرع وأكفأ من عشرات العمال، ومن الطبيعي أن يشعر هؤلاء بالتهديد والقلق على وظائفهم، ومصادر رزقهم.
لكن. تبيّن لاحقا. أن ذلك القلق كان مبالغا فيه، فما حدث هو أن تلك الثورة التي أحلت الآلات محل العمال في بعض الوظائف التقليدية، وفرت في المقابل أضعافا مضاعفة من الوظائف الجديدة في مجالات جديدة.
هل ستفعل الثورة الرقمية المثل؟!
لا أحد يدري.. لكن. عموما. أن تصنع شيئا أقوى أو أسرع منك شيء، وأن تصنع شيئا أذكى منك. شيء آخر. فبخلاف الآلات التي تتفوق على الإنسان في المجالات الجسدية.. الذكاء الصناعي ينافس الإنسان في أخص خصائصه الإنسانية، وهو الذكاء.
ليس القصد هنا إثارة ذعر غير مبرر من إمكانية قيام الروبوتات وشبكة الإنترنت والبنية الرقمية في العالم، بالتمرد على الإنسان، وصولا إلى الاستحواذ على أزمّة القوة والسلطة، واستعباد البشر أو ربما إبادتهم.!
هذه سيناريوهات هوليودية مغرقة في الخيال، ومع ذلك هناك مجال لقلق منطقي يستند على وقائع واحتمالات عالية الوجاهة بإمكانية أن يحل الذكاء الصناعي محل الإنسان في مجالات كثيرة تتطلب مهارات علمية وعقلية ومعرفية وفنية وإبداعية.
بداية بالتعليم. بات بالإمكان فتح مدارس رقمية، يلتحق بها الطلاب من مختلف دول العالم، ويدرسون فيها بشكل افتراضي وهم في منازلهم، ولكلٍّ منهم أكثر من معلم رقمي خاص يقدم له المضمون التعليمي بأكفأ الطرق، وأرقى الأساليب.
كذلك في مجال الإعلام. بات بإمكان البرامج الرقمية، فضلا عن كتابة الأخبار، ومعالجة الأصوات والصور. مد الإذاعات والقنوات التلفزيونية بإعلاميين وإعلاميات رقمية مبتكرة بشكل كامل: صوتا وصورة.
هكذا أطلت المذيعة "ابتكار" مؤخرا من على شاشة قناة الجزيرة، لا يمكن التفريق بين البشري والرقمي في هذا الصدد، القدرة على ابتكار شخصيات افتراضية كاملة تتجه أيضا إلى فن السينما، بدمج الخيال والواقع، وابتكار ممثلين رقميين بشكل جزئي أو كامل.
على الصعيد البصري نفسه. أبدى الذكاء الرقمي قدرة مدهشة على صناعة صور متخيلة للشخوص والأشياء، وابتكار تصميمات جديدة، دخولا في الفن التشكيلي بإنتاج لوحات فنية مبتكرة، لا تخلو نماذجها الأولى من لمسات فنية.
على الصعيد الصوتي، وبجانب قدرته التي باتت تقليدية في تحويل النص إلى صوت والعكس، اقتحم الذكاء الصناعي مؤخرا فن الغناء بقدرة عالية البراعة على معالجة الأصوات والموسيقى، ومزج وابتكار الأصوات والألحان والأداءات الموسيقية..
كما يحاول أيضا اقتحام عوالم الفن والأدب النصي: الشعر والقصة والرواية.. ومع أن نتاجاته الراهنة فيها ما تزال ساذجة، لكنها مدهشة بالنسبة لبرامج رقمية. تتطور بسرعة خاطفة، لا تقاس بالعقود والقرون، بل بالأسابيع والشهور والأعوام.
في المحصلة: قد يكون لدينا تعليم أجود، لكن بلا معلمين ولا مدارس، وإعلام جيد لكن بلا إعلاميين ولا مقرات إعلامية، كذلك: فن تشكيلي بلا فنانين، وغناء بلا مغنين، وسينما بلا ممثلين.. بل حتى موظفين آليين وزوجات روبوتية.. بلا عقود عمل أو زواج أو مرتبات.
نحن هنا أمام ثورة تقنية عميقة عارمة حاصلة وتتسع بشكل متزايد، ولن تكون تأثيراتها أقل من تأثيرات الثورة الصناعية، وبغض النظر عن الإيجابيات الحاصلة والمحتملة.. سيكون لها سلبياتها التي ستطال بالتأكيد مختلف جوانب الحياة التي نألفها.
على الأقل. سيطيح الذكاء الصناعي أو الاصطناعي بملايين وعشرات الملايين من الوظائف البشرية القائمة في كل المجالات، وعلى مستوى العالم الذي جعلته التكنولوجيا والثقافة الرقمية قرية واحدة صغيرة.
لكن. في كل حال. لا تتوقف القضية بالموازنة بين السلبيات والإيجابيات، وهي على الصعيد العربي بالذات، قضية وجودية مصيرية، لا يمكن تلافي سلبياتها الحاصلة والمفترضة بالهروب وإغلاق الحواس والعقول، كما فعل العرب مع عصر التنوير والثورة الصناعية.!
بسبب ذلك الرفض والانغلاق.. ضاع العرب أكثر من قرن ونصف بعيدا عن الحضارة المعاصرة، وبالمثل هذه المرة من لم ينخرط في هذه الثورة، على سلبياتها، لن يجد له موطئ قدم في المستقبل، وكما لم يرحمنا التاريخ في الماضي لن يرحمنا في المستقبل.
هكذا تحدث، ويتحدث الحاسوبي العربي الريادي الكبير "د. نبيل علي"، منذ أربعة عقود، بمؤلفات أشبه بصرخات خلاقة دعا فيها القيادات والنخب العربية إلى الاستعداد الجاد لهذه الثورة والمرحلة الرقمية برؤى وتوجهات وكوادر مسئولة على قدر التحدي في السباق العالمي المحموم على امتلاك المستقبل.