بما أننا الجيل الذي عاصر طفولة دولة الجنوب.. ثم بعد مرور عقدين ونيف من عمرها شاهدها وهي في أوج طيشها تخلع عنها علَمها وعاصمتها وتاريخها وثقافتها وشعبها، لترفع علم "الوطن الجديد" دون ضمانات أو مقومات، في عملية انتحار تاريخي.
بما أننا ذلك الجيل فإنه يحق لنا في الظروف الحالية أن نحس بعدم اليقين.. ليس باعتباره نقيضاً للشك وإنما لأن ثمة أفقاً ما يزال معتماً للغاية.
لقد انقضت سنوات ثمينة ظهرت فيها متغيرات في المشهد الداخلي وطرأت عوامل جديدة إقليمية ودولية.
والنتيجة هي أن قضية الجنوب تقاطعت بصورة أكثر تعقيداً مع ملفات أخرى في سياقات جيوسياسية، في الوقت الذي ما تزال أمام الجنوبيين مسائل داخلية بالغة الأهمية غير محسومة.
إن واقع اليوم يؤكد بأن من علمنا الحرب كان بطلاً مقداماً ولكن من علمنا السياسة كان مصاباً بقصور الرؤية وفيض العاطفة.
ونخاف من أن ذلك الموروث قد تواتر في وعي الأجيال حتى أصبحت الإدارة السياسية بلا أرشيف تاريخي ملهم أو تقليد ممنهج يساعد في تحليل المسارات وضبط الإيقاع على مسرح التعامل مع المتغيرات.
فهل تعاني قيادات الجنوب من متلازمة غياب المطبخ السياسي المتميز بالحرفية والخبرة؟
هذا سؤال ينبغي الوقوف على دلالاته خاصة وقد وقعت قضية الجنوب تحت إملاءات "الأمر الواقع" الذي أفرزته حالة الارتباط بالتحالف وبقوى الشرعية، مما جعل القيادات تعيش مفارقات الصفة "التحررية" والانغماس في البيئة البيروقراطية للسلطة وبرستيجات ضيافات التحالف.
هذه ليست "تشاؤمية" مجردة لتحفيز مزاج المحبطين وإنما خدش في لوحة الغموض غير البناء الذي يكتنف مآلات قضية الجنوب بعد تسع سنوات من الحرب!
لهذا يتعين التسريع في عمل مراجعات وإصلاحات داخلية أساسية في الوقت الحاضر استعداداً لخطوات قادمة.. وهي خلاصة الموضوع هنا.
لقد أدى وهم الشراكة في السلطة والاندماج المفرط مع أولويات التحالف إلى عدم السعي للبحث عن بدائل موضوعية داخلية، مثلما ساهم في تقييد حركة الشارع الجنوبي وحيويته.
ويرى كثيرون أن المجلس الانتقالي لم يستطع عبر السنوات أن يأخذ خطوات مدروسة في مسائل متعددة تمس حياة المجتمع وأداء الأجهزة ذات العلاقة.
وبنفس القدر لم تنجز قيادته الإصلاحات المطلوبة والمتوقعة في الهياكل العسكرية والأمنية، وتنظيمها بحيث تستوعب كوادر وخبرات من كامل الطيف الجنوبي دون انتقاص، وبالمحتوى الذي يساهم في إعادة الروح التضامنية لشعب الجنوب التي سادت خلال سنوات الحراك السلمي.
ويظل شبح الخوف مبرراً بأن تتوسع مراكز قوى داخل التشكيلات المدنية والعسكرية بحيث يصعب تفكيكها وتتحول الحصى إلى جلاميد والجمر إلى حرائق، خاصة مع غياب الدولة وتهتك قشرتها المتبقية.
تلك المحاذير لا يجب أن تواجه بالصبر وطول البال وإنما بالمسئولية وبالخطوات الموضوعية وبتوسيع دائرة الشراكة الداخلية بصورة شاملة وفي كافة المسئوليات والمواقع.
وعلى مستوى آخر ثمة تفاعل متزايد يمكن رصده داخل قطاعات شعبية واسعة حول ضرورة اتخاذ إجراءات صارمة لردع العناصر المتهمة بارتكاب تجاوزات تضر بالمجتمع والملكيات العامة والخاصة، وتلك التي تسيئ بأفعالها إلى سجل المنظومة الأمنية وتضحياتها وتكاد تحبط الشغف الشعبي في نصرة قضية الجنوب وتضعف مكانة المجلس الانتقالي في "معركة الرأي العام" وهي الأخطر في هذا الوقت.
ولهذا تبرز الحاجة الملحة للتصحيح والتغيير المستمر مثلما توجد ضرورة لمواصلة الحوار لاستعادة التضامن الداخلي وترميم النسيج السياسي بهدف تشكيل جبهة جنوبية واسعة وصلبة لمواجهة التحديات القادمة.
تلك شروط أساسية للحفاظ على حيوية القضية الجنوبية وضمان انتصارها.
ولن يتحقق ذلك إلا من خلال جهود كبيرة ودوام متواصل وفاعل وحضور على الأرض وأن تشارك القيادات بذاتها في التواصل والحوارات المستمرة وعدم الاكتفاء باللجان والآليات التقليدية.