محمد عبدالرحمن
اللائذون إلى المعارك.. أنتم جسد الحرية وخبزها ونبيذها
هتاف الحشرات أصبح أكثر دوياً من صرخات المدافع، وقبعتي مبتلة، ربما تبولت بعض الأحلام وربما كان هناك مطر غزير في بعض الأفكار داخل جمجمتي، على الرغم أنه لم أسمع الرعد ولم ألمح البرق، ربما كنتُ استحم على شاطئ العدو، حيث يمكن أن أصل إلى هناك بعد معركة حمراء.
في تلك الليلة كنت وحيداً، في مترس ترابي، تبعد عني بندقيتي متراً واحداً، ولأول مرة انتابتني موجة عاطفية للكلام معها والبوح لها، اقتربت منها وبدأت أسامرها بألم الكلام وصوت المعركة، في حالة من البوح الثنائي من متكلم واحد، الوقت يجب أن يمتلئ بكل المشاعر.
آه يا بندقيتي!! لم نتبادل الكلام منذ فترة، وكأنكِ في صيام عن الحديث، ما الذي حدث، هل حزينة أم أن الوقت داهم حنجرتكِ فأصابكِ الصمم، لا أحب الصمت مع رفقائي، لا رفقة بصمت، وأنت رفيقتي هنا الوحيدة التي يمكن لها أن تغني وأسمع، وأن أغني وتسمع، إنه شعور المقاتل في وحدته الذاتية وواحدية معركته.
عندما التقيت بكِ لأول مرة في بداية المعركة، كنت حينها واصلاً من قريتي، قرية صغيرة فيها تنمو أحلام الناس ببطء بنكهة القرويين، صافحت حجارها وشعرت في روحي دفء أمي عندما لامست قبرها، وخرجت منها فجراً، عند أول شعاع للشمس أشرق في جوانحي، تركت خلفي أهل القرية وحملت معي أحلامهم ومستقبل اطفالهم أمانة أدافع عنها.
شعرت بأمان عندما وجدتكِ في يدي، في المعركة لا يكون هناك مجال للوحدة دون رفيق، ألتمس فيكِ صوت الحق يصرخ من فمي: أيها اللائذون إلى المعارك، أنتم صوت الحرية وخبزها ونبيذها. انطلقت دون رغبة البقاء في مؤخرة المعركة، لا شيء أقدس من التضحية في سبيل الناس.
الناس هؤلاء بحاجة إلى من يقاتل من أجلهم، والبلاد بحاجة إلى النهوض، تعبنا من الركود والسقوط، اجتاحت هائجة سوداء كل بيوت البلاد، وأصبح الخوف والرعب قانونا يتجول برغبة التخويف والنهب، كان لا بد من أن يخرج البعض إلى النور قليلاً، ليعود حاملاً معه قبساً من النار ومشعلاً من النور، وها أنا أحاول أن أكون واحداً من حملة النور، ولو بدمي زيتاً له وجسدي حطباً لإشعاله.
ليس هنا أوفى وأصدق منكِ أيتها البندقية، جهداً وتعباً تلاقيه، صوتكِ ورصاصكِ لا يرتجفان ولا يخافان، إذا انطلقا كان لهما الفصل في حياة العدو، أنطلقُ بكِ وتسرع خطاي إلى التقدم، أريد أن أمنحكِ شيئاً، لكن لا أملك إلا أن أُلقمكِ الرصاص، فأما جسدي فقد منحته بلدي، يتربص به قناص ربما يخطئ في اصطياده، وربما تصطاديه قبل أن يوجه بندقيته نحونا.
أجد في نفسي أشياء كثيرة أحاول أن أجد لها الكلمات التي تُصوّرها، الركوب على البراق إلى قريتي، حاملاً أحلام الناس تصافحهم، وأشاهد حياتهم ترتقي ويتلاشى الليل في قلوبهم لا أرغب في ذكر معاناتي لهم، ولا الحديث عن المعارك والتضحيات، لا أحب أن سمع ثناءهم ومديحهم لي، لم أصنع لهم إلا الواجب، إنه الواجب أيتها البندقية، واجب الإنسان تجاه الإنسان.