محمد عبدالرحمن

محمد عبدالرحمن

الفئران التي أغرقت الشعب مرتين

Wednesday 26 August 2020 الساعة 03:31 pm

الحدث التاريخي الذي صنعه سد مأرب عندما انفجر وجرف معه حضارة، وخلّد الواقعة في كُتب السماء، هو حدث لم يطَل إلا سبأ وما كان في مجرى سيل السد المنهار، مع ذلك كان حدثاً أثار ضجة السماء قبل الأرض، واليوم نشهد أفظع حدث في تاريخ اليمن، الذي تجرفه سيول الحرب.

داهمت السيول المتبندقة والمتمترسة كل مدن البلاد، واجتاحت القرى، وأقامت في كل بيت، صانعة أوجاعا وأتراحا وبواكي لا انقطاع لها، إنها تجرف شعبا بأكمله، وحضارة بأكملها، وكل يوم تتعاظم تلك السيول وتخترق المجتمع أكثر وبوجع أكبر، الحرب في اليمن أكثر وجعاً من انهيار سد مأرب، وسيكتب التاريخ كيف غرق هذا الشعب مرتين.

يغرق الشعب كل يوم ولا أحد هناك يمكنه أن يوقف سيول الحرب، يلوح بيديه طلباً للنجدة، لكن لا أحد يرى، ولا يسمع صرخاته وأناته وأوجاعه الغائرة في هذا الجسد المضرج بالدم والحسرة.

دوامة السيول المؤدلجة والماكثة في فوهات البنادق، تصنعها فئران أشد فتكاً من فأر سد مأرب، لأنها تسمّنت بالحروب والأفكار المتطرفة، وبالنزعات المصلحية للذات والجماعة، فئران مؤنسنة بعضها تريد الخلافة، والأخرى ترى نفسها من سلالة السماء وتريد الولاية.

الحرب وسيلة ناجحة لاصطياد الناس، واغتيال الحرب، والقفز إلى السلطة والثروة، وطريقة لصناعة الفئران لنفسها لغة تحررية ودينية، والبحث عن شرعية في هدم وتجريف الشعب مادياً ومعنوياً، لأنها الحرب أقذر الوسائل التي تصنع من الفئران سادة على بقية الناس، عندما تكون الناس قد سُلبت إرادتها لفترة مؤقتة، قبل أن تستردها وتثور.

لكن أي ثورة ضد هذه الفئران والسيول وصلت إلى الحلقوم، لم يعد للناس قدرة على تحريك الأصابع والسباحة، لم يعد هناك ملجأ آمن، التنفس الثوري في وجه تلك الفئران المتسيدة والفاسدة هو أمل يختنق بالغرق، ويخفت في كل صيحة تأتي على الرؤوس بضربات قاسية.

العناء الذي يشهده هذا الشعب، لم يكن موجوداً في حالة الغرق الأول، ولم يحدث صيحات هادمة، وتجريفاً من الجذور، لذلك كان غرقاً استوجب تعاطف السماء مع من تبقى ونجا منه، اليوم لم يعد هناك ناجون، ولا بر يمكن اللجوء سباحة إليه، يرفض العالم أن يتعاطف معنا لوقف سيول الحرب، فما بالك بالسماء التي نغرق وأعيننا شاخصة إليها.

طريقة واحدة للبقاء والتمسك بقشة ربما نصادفها أثناء التجريف والغرق، الأمل وصناعته في مجرى التنفس الشعبي، والمخاطرة الهادفة لإدخال الفئران إلى مصائد مُحكمة، وإسقاط تعجرفها الأيديولوجي الذي يدفع بدوامات السيول ويزيدها قوة الجهل نحو شعب بأكمله يغرق.