الدكتور حمود العودي يكتب: زكـــاة وإســـلام أهــل اليمــن.. بين شرعية المعارضة وأكذوبة الردة (2-2)

السياسية - Monday 03 June 2019 الساعة 03:29 am
نيوزيمن- إعداد/ أ.د. حمود صالح العودي

الحلقة الأولى:

 الزكـــاة وإســـلام أهــل اليمــن.. بين شرعية المعارضة وأكذوبة الردة (1-2)

ثالثاً: مقاومة النفوذ الفارسي قبل وبعد وصول الدعوة الإسلامية إلى اليمن

1-المقاومة الوطنية ضد الفرس ووصول الدعوة الإسلامية إلى اليمن:
المعروف باختصار أن الاحتلال الفارسي بالتواطؤ مع بعض الأقيال والأذواء قد جاء بعد اغتيال ذو يزن قبيل ظهور الدعوة الإسلامية في مكة بقليل، وأن حركة مقاومة هذا الاحتلال قد بدأت على إثر ذلك أو موازية له من منطقة وادي مذاب في الجوف بقيادة عبهلة بن كعب العنسي وقبل ثلاثة عشرة سنة من هجرة الرسول إلى المدينة ووصول الدعوة الإسلامية إلى اليمن أو ذهاب اليمنيين إليها على الأصح.

فبينما كانت الثورة ضد الحكم الفارسي في صنعاء تتمدَّد من مدحج الجوف إلى مأرب مروراً بحمير حتى حضرموت... وغيرها من بقاع اليمن، كان قادة ووجهاء اليمن يرحلون إلى المدينة جماعات وفرادى للدخول في الإسلام طوعاً لا كرهاً، استناداً إلى ما سبق ذكره من الخواص المشتركة بين جوهر الدعوة والخواص الاجتماعية لأهل اليمن ومنهم أو أبرزهم: معد بن يكرب الزبيدي وذو الكلاع الحميري والأشعث بن قيس الكندي وفروة بن مسيك المرادي وابو موسى الأشعري... وغيرهم. وفي ذهنهم جميعاً، إلى جانب كل الأسباب والدوافع السابق ذكرها في البند الأول، تعزيز وحدتهم الوطنية والقومية بإخوانهم في الشمال من أجل مواجهة الاحتلال الفارسي وتحت مظلة الدعوة الإسلامية الجديدة، وكان لهم ما أرادوا من الفوز بقبول الدعوة وصاحبها عليه الصلاة والسلام ومِن منزلها الخالق جل جلاله حينما نزل بهم قرآن يتلى في سورة النصر: {ِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.. وما إن عادوا بإسلامهم لتعزيز ثورتهم مع عبهلة القائد الوحيد الذي لم يذهب إلى المدينة واُختِلف في أمر إسلامه أو عدمه، لكن قيادته للثورة مع كل من ذكر هو ما لم يختلف فيه، وما إن ضيقت الثورة الخناق على شهر بن باذان في صنعاء وانقطعوا حبل صلته بفارس بسبب مقتل كسرى انوشروان وانهيار ملكه وحتى أعلن إسلامه، فولاه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أبقاه على ما هو عليه في ولايته لليمن جرياً على قاعدة عرفية اتبعها الرسول ببقاء كل من كان على أمر قبل دخوله في الإسلام يبقى على ما كان عليه قبل إسلامه ما لم يتعارض ذلك مع حد شرعي، فاعترض اليمنيون جميعاً على ولايته السياسية بحُجة إسلامه باعتبار السلطة والسياسة شأناً دنيوياً يدخل في باب المعاملات وليس شأناً عقائدياً دينياً، واستمرت الثورة حتى انتصارها بمصرع شهر بن باذان وترحيل معظم الفرس المدنيين أو المسالمين إلا من بقية محاربين لجأوا إلى همدان للحماية لجوءاً.

2- كانت مقاومة ومعارضة سياسية بعد الإسلام وليست ردة دينية عنه:
وبمقدار ما أن الثورة ضد الاحتلال الفارسي وحكم باذان قبل الإسلام ومعارضة ولايته السياسية بعد إسلامه قد نجحت بقيادة أبرز قادة أهل اليمن المسلمين وقادة الفتح الإسلامي فيما بعد لفارس والروم المذكورين آنفاً، كما يؤكد ذلك نزار الحديثي في رسالته لدرجة الدكتوراه عن "أهل اليمن في صدر الإسلام" المكرسة لهذا الموضوع جاء المتقولون على التاريخ والكذب على أهل اليمن فيما بعد بتحميل المعارضة السياسية -كما أشار الحديثي– أكثر مما تحتمل من مفهوم الردة الدينية بدلاً من حقيقتها كمعارضة سياسية لها ما يبررها، وكشأن دنيوي لا علاقة لها قط وبأي حد من حدود الإسلام والعقيدة الدينية إلا ما تقول به المتقولون بالباطل من عثورهم على ضالتهم المنشودة للإساءة لصفحة اليمن وأهله المشرقة نحو الإسلام.
ومن المفارقات العجيبة أن يُتوفى الرسول عليه الصلاة والسلام في نفس الوقت الذي اعترض اليمنيون على ولاية باذان السياسية بعد إسلامه ونقل كامل زكاة اليمن إلى المدينة، ولم يتح لهم الفرصة لنقل اعتراضهم ذاك أو معارضاتهم تلك أو شكواهم على الأصح على الرسول في المدينة، والذي ما كان له قط إلا أن يتفهمه ويستجيب له حيث لم تتجاوز مدة ما بين إقرار شهر بن باذان والياً على اليمن بعد إسلامه ووفاة الرسول وحتى مقتل شهر بن باذان على يعد عبهلة بعد دخوله صنعاء بل ومقتل عبهلة نفسه غيلة بالسم على يد أحد نساء حاشية باذان التي تزوجها عبهلة كرها بعد مقتل باذان، حيث جرت كل هذه الوقائع والمفارقات التاريخية الكبيرة في مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر وتولى بعدها قيس بن مكشوخ المرادي قيادة الثورة، وهي مدة لم تكن تسمح حتى بذهاب رسول من صنعاء إلى المدينة وعودته حتى يشكو الأمر إلى الرسول ويعود بما يلبي طلبات واعتراضات اليمنيين السياسية والاقتصادية المشروعة والتي ما كان لعدالة الرسول إلا أن يلبيها.

وما لبث المنقولون على التاريخ بعد ذلك أن نسجوا مختلف الأقاويل والصور المغلوطة عن تلك الأحداث جهلاً أو تجاهلاً على الأصح وإمعاناً في تشويه موقف اليمن تجاه الإسلام، باعتبار تلك الأحداث هي ردة بدلاً من كونها مقاومة وطنية لغزو واحتلال خارجي ومعارضة مشروعة لأخطاء سياسية داخلية لا علاقة لها بحد شرعي أو عقيدة دينية، ونسبوا للخليفة الأول أبي بكر، رضي الله عنه، تسييره لجيوش جراره إلى اليمن لإخماد فتنة الردة، وهو ما لم يثبت ولا يقوى أحد على إثباته واقعياً، ناهيك عن قياس المنطق العلمي والعقلي الذي يقول إن دولة المدنية الناشئة وقتها لم تكن هي ولا البيئة الاجتماعية والديمغرافية البدوية من حولها في وضع اجتماعي وسياسي وعسكري يتيح لها تكوين جيوش منظمة قادرة على إخضاع كتلة بشرية كبيرة من سكان اليمن بخواصهم الحضارية العريقة وبيئتهم الجغرافية الصعبة بسهولة.

وعلى افتراض صحة ما قالوه أو تقولوه على الأصح أن ردة شاملة في اليمن قد حدثت وأن جيوشاً قد سيرت من المدينة وقضت عليها، فهل يستطيع أحد من المتقولين بغير أدنى دليل أن يقول لنا شيئاً عن مصير أبرز قيادات اليمن السابق الإشارة إليهم والذين ذهبوا من قبل إلى المدينة للدخول في الإسلام طوعاً ثم عادوا وقاتلوا باذان قبل إسلامه بقيادة عبهلة ثم عارضوا ولايته السياسية بعد إسلامه بعد ارتدادهم عن الإسلام، ثم هزيمتهم الساحقة مع ردتهم أمام جيوش المدينة المفترضة؟

الرد المنطقي عقلاً ومنطقاً أن لا يخرج مصيرهم عن ثلاث خيارات، أولها: أن يكونوا قد قتلوا في الحرب. وثانيها: أن يكونوا قد أسروا وأقيم عليهم حد الردة "المفترى به من حيث المبدأ على الإسلام". وثالثها: أن يكونوا قد اسلموا من جديد، فذلك من حسن الحظ هو ما لم يقله أحد أو يقوى على إثبات شيء منه، أما أنهم قد صاروا هم أنفسهم قادة الفتح الإسلامي للشام والعراق وشمال إفريقيا وحتى الأندلس وبلاد ما وراء النهر فهي الحقيقة التي لا ينكرها أحد، أما كيف تم ذلك فهذا ما نوضحه في البند التالي والأخير في موضوعنا هذا.

رابعاً: تجاوز الأزمة والخروج الكبير

تجاوز الأزمة السياسية والاقتصادية بين صنعاء والمدينة:
في ضوء ما سبق من ثبوت أن ما حدث في اليمن قبيل الإسلام وإبان ظهور الدعوة ووصولها إلى اليمن قد كان ثورة ضد احتلال فارس الخارجي في مرحلته الأولى ومعارضة لأخطاء سياسية واقتصادية داخلية في مرحلته الثانية، وأن لا ردة في اليمن ولا جيوش من المدينة قد سيرت لإخمادها، وأن ما تم من تجاوز لتلك الأزمات قد كان في عهد الخليفة أبي بكر، رضي الله عنه، في شكل سفارات ومفاوضات بين سلطة المدينة وقادة اليمن طبقاً لرؤية الدكتور الحديثي وغيره من المؤرخين المحدثين والمنصفين، تم بمقتضاها التعرف على مطالب اليمنيين الملخصة في أمرين مهمين: الأول، عدم تولية أحد ممن تبقى من الأبناء الفرس على اليمن. والثاني، عدم نقل الزكاة بالكامل إلى المدينة إلا ما فاض بعد اكتفاء فقراء اليمن ومصالحه العامة منها طبقاً لنظامهم القديم الذي أصبح تشريعاً إسلامياً جديداً، وأن تظل أراضي اليمن عشرية وليست خراجية، وتم القبول بها من قبل الخليفة أبي بكر في مقابل تلبية طلبه منهم الخروج في جهاد فتح الشام والعراق، طبقاً لوصية الرسول عليه الصلاة والسلام قبل وفاته بأن لا تفتح الشام والعراق إلا بأهل اليمن، خصوصاً وقد عقد الرسول راية الفتح بقيادة شاب لا يتجاوز عمره الثامنة عشرة، وهو أسامة بن زيد الأنصاري، فاستجاب اليمنيون لذلك عن طيب خاطر وحماس كبير.

خامساً: الأسباب الاجتماعية لوصية الرسول بأن لا تفتح الشام والعراق إلا بأهل اليمن

من التساؤلات المثيرة هو كيف يمكن للرسول عليه الصلاة والسلام أن يعقد راية الفتح للشام والعراق ويوصي بأن لا تفتح إلا بأهل اليمن، في الوقت الذي كانت اليمن بثورتها ضد ولاية باذان على أشدها، بل وخارج سلطة المدينة وفي حالة ردة كما يتقول المتقولون؟

والرد على ذلك منطقياً هو أن اليمن كانت في حالة أزمة سياسية مع المدينة وليس حالة ردة كما روج لذلك فيما بعد، ولو كان الأمر كذلك لما كان للرسول أن يوصي بفتح الشام والعراق بمرتدي اليمن، هذا أولاً. وثانياً، أن بُعد نظر الرسول الاجتماعية والسياسية والعسكرية كانت ثاقبة، لأنه لا يمكن تكوين جيش أمة يواجه جيش أمة كفارس والروم إلا من شعب وأمة كاليمن لا من القبائل والرعاة المتنقلين في الصحراء الذين كان معظمهم في حالة تبعية وتحالف مع هذا الطرف أو ذاك كتبعية المناذرة في العراق لفارس والغساسنة في الشام للروم.

أما الأهم فهو بالنسبة لليمنيين فإن الفتح هو لا لمجرد نصره ونشر دعوة الإسلام فحسب بل ولتصفية ثأر قديم يدقون به أبواب فارس والروم، كما سبق وأن دقوا هم أبواب اليمن، وانتهت الأزمة الاقتصادية والسياسية بين صنعاء والمدينة، وكان الخروج الكبير الذي لا سابق له لأهل اليمن بأنفسهم وأهلهم وأولادهم وما ملكت أيمانهم لا لمجرد الانتصار في الحرب ونشر الدعوة وثأراً من فارس والروم، بل وتأسيس الهُوية العربية والقومية للأمة والدولة العربية الإسلامية حينما تحولت كل معسكراتهم إلى مدن وحواضر إسلامية عظيمة، بدءاً من فسطاط مصر وبغداد العراق وقيروان المغرب وحتى طليطلة وغرناطة الأندلس، دون أن تخلو من حياتهم مشاعر التنافس الدائمة مع إخوانهم عرب الشمال، أو ما عُرف بتنافس وتنازع القيسية واليمانية على السلطة والمال والمكانة التي عبَّر عنها معد بن يكرب الزبيدي يوم القادسية بقوله:

أصول بباب القادسية فاتحاً وسعد ابن وقاص عليّ أمير
وأعطي السوية في طعن وفي نفذ ولا سوية في صرف الدنانير