كيف أسهم الإخوان في تفريغ مضامين "26 سبتمبر" وتهيئة أرضيّة عودة الإمامة بنسختها الحوثية؟

السياسية - Saturday 28 September 2019 الساعة 11:39 pm

نيوزيمن، كتب/ نبيل الصوفي:

يذكر رئيس الوزراء الأسبق محسن العيني، في مذكّراته "خمسون عاماً في الرمال المتحركة" أنّه سمع ذات يوم من ستينيات القرن الماضي هتافات لا تختلف عن شعارات الإخوان المسلمين في غير دولة عربية.

اليمن إلى جانب مصر وسوريا، من البلدان التي تقدم فيها نشاط الإخوان المسلمين من وقت مبكّر من قبل قيام الثورة المصريّة في يوليو 53م بسنوات، حتّى إنَّ مرشد الإخوان ومؤسّسهم “حسن البنا” أرسل “الجزائري الفضيل الورتلاني” مبعوثاً خاصّاً للإمام يحيى الذي كان يسميه إماماً للمسلمين، قبل أن ينقلب عليه ويحاول الاستيلاء على حُكمه لإقامة دولة الجماعة باغتياله في 1948.. وكانت تلك الثورة أول نقاط الصِدام بين الجماعة والملك السعودي عبدالعزيز الذي رفض القبول بفكرة قيام “حركة إخوان مسلمين في بلاده”، وقال ردّاً على البنا: «كلنا إخوان مسلمون».

انهارت ثورة 48، التي سمَّاها الإخوان “الثورة الدستوريّة” بناءً على توجيهات حسن البنّا المذكورة في وثائق الجماعة، وتوزّع مصير قيادات الإخوان اليمنيين بين الإعدام والسّجن والتشرُّد، وانهار التنظيم خاصّة مع دخول المنطقة العربية عهد التيارات القوميّة واليساريّة، وتصاعد الصّراع الأمني بين مصر عبدالناصر والإخوان.

سبتمبر.. عودة الإخوان لاحتواء الثورة

حين قامت ثورة الـ26 من سبتمبر، لم يكن لتنظيم الإخوان وجود في شمال اليمن، وكان وجودهم مقتصراً كقيادات في الشّتات أو في الجنوب.. ولكن الثورة الفتيّة فتحت أبواباً جديدة للصّراع داخل أطرها..

فمن ناحية استمرّت الدولة السعودية في موقفها الرافض لقيام ثورة في اليمن، ووقفت مرة أخرى مع الإمامة، كما وقفت في 48م، ثمّ تفجَّر الصراع المصري السعودي بعد إعلان جمال عبدالناصر دعم الثورة ليس بالإعلام وحسب، بل وأرسل جيشه للدّفاع عن ثورة “تنظيم الضباط الأحرار” في صنعاء.

وخلال سنوات الحرب بين الملكيين بدعم السعودية والجمهوريين بدعم مصر، بقي الإخوان في الهامش حتى بدأت أصواتهم ترتبط بالقوى الاجتماعيّة التقليديّة التي كانت ضد الإمامة، ولكنها ليست مع التّغيير الثوري في إدارة المجتمع، حيث لا تدعم قيام جيش، وتعتبر القبيلة ومشايخها هم من يجب أن يرثوا “السُّلطة” عن الإمامة، وعلى الرغم من أنها قوى جمهورية، فقد تعاونت مع القبائل الملكيّة في الحرب ضد الجيش المصري، ونسَّقت الأدوار الميدانية فيما بينها.

وفيما كانت الحركة الوطنية تعيش تجاذبات الصّراعات الإقليمية والدولية بدأ الإخوان يستعيدون نشاطهم، وكانت البداية من التّصالح مع السعودية الرافضة لمبدأ الثورة في اليمن، جارتها المؤرقة، ولكن عبر عنوان وسط بين الملكيّة والجمهوريّة هو “الطريق الثالث”، وهو حالة وسطى بين الملكية والجمهوريّة، يمثّل ما بقي من أحلام “دولة الدستور الإسلامي” لثورة 48م.

تنظيم الضباط وتنظيم الإخوان

طبيعة عناصر تنظيم الضباط الأحرار وخلفياتهم، إلى جانب تشابه أهداف الثورة المُعلَنة مع أهداف ثورة يوليو المصرية، التقدُّميّة الحداثية التي كانت تعيش صراعاً مع الإخوان المسلمين فيها والذين وصل بهم الحال إلى محاولة اغتيال عبدالناصر نفسه، وضعت الإخوان في منطقة خاصة، عنوانها الدفاع عن الدِّين والجمهورية، حيث كان خطاب الإخوان يدَّعي أنّه يمثّل الجمهورية المسلمة في مواجهة “جمهوريّة أعداء الدّين”.

خروج الجيش المصري من اليمن.. انتصار حلفاء الإخوان

بعد انتكاسة العرب في حرب 1967 مع إسرائيل تراجعت شعبية الاتجاه القومي بمقابل نشاط الحركات الدينيّة عموماً، والإخوان خصوصاً، لتقديم نفسها كبديل أفضل لما اعتبرته فشلاً للتيار القومي العلماني، واستثمرت الموقف السعودي في اليمن لصالح تعزيز وجودها من جهة، وللاضطلاع بمحاربة القومية والعلمانية، من جهة أخرى، ما كان يعني من الناحية السِّياسية العملية، السّعي لتحجيم رجال ثورة 26 سبتمبر، وتقريب أجندة المصالحة للواقع السياسي بين الملكيين والجمهوريين، رغماً عن التفوق الكاسح للجمهوريين على الأرض، وهو ما تم فعلاً وأسفر عن رجوع عناصر ملكية لمفاصل السلطة الجمهورية.

العودة إلى السُلطة

في السبعينيات، استغل الإخوان المسلمون حاجة المجتمع الدولي الغربي وحلفائه، خارجياً لمواجهة المدّ الثوري الذي ارتبط بالاتحاد السوفييتي، وسياسة التوازنات السّياسية، داخلياً، لخلق حالة تحالف مع السُلطة في اليمن ركزت بدرجة أساسية على زيادة الانتشار تنظيمياً وجماهيرياً، ومكافحة النفوذ القومي العلماني في الشّمال، ومواجهة التيار الشيوعي الصاعد في الجنوب اليمني. فكانت بداية تأسيس المعاهد العلميّة بالاتفاق مع السُلطة في أواخر عهد الرئيس عبدالرحمن الإرياني، إلا أنّ الانطلاقة المهمة كانت باستصدار قرارات من الرئيس إبراهيم الحمدي لإنشاء عدة هيئات يديرها الإخوان، أهمها مكتب الإرشاد، وهيئة المعاهد العلمية التي سلّمت للقاضي يحيى الفسيل، وهو أبرز القيادات التي وقفت ضد الجمهورية اعتقاداً بأنها “فعل ضد الدِّين”، حتى عاد إلى الصف الجمهوري مع تأكيدات قدرته على العمل لأجل “الدّين” داخل دولة الجمهورية.

وقد شهدت المعاهد العلمية مراحل تغيير مختلفة، فحين أسَّسها الفسيل كانت عبارة عن مراكز للتعليم الديني، استوعب كل القوى التقليدية الدينيّة، حتى إنّه أسّس لصعدة الزيدية نسخة من المعاهد تختلف عن النسخة التي أسّست لمجتمعات مثل البيضاء وغيرها، ولكنها مع الوقت تحوّلت إلى مؤسّسات تنظيمية خاصة بالإخوان، منهجاً وإدارة ومعلمين، ومخيمات خاصة للتدريب والتأهيل التنظيمي السياسي.

الحمدي.. وإرث الصرع مع البعث

اضطر الحمدي، وقتها، للاعتماد على الناصرييّن في إدارة سياسة الدولة، وعلى الإخوان في إدارة ثقافة المجتمع دينياً، من ناحية، استغلالاً لصراع تقليدي بين الناصريين والبعثيين منذ فشل وحدة 1958 بين سوريا ومصر، وذلك للتخلّص من نفوذ البعثيين الممتد من عهد الإرياني بشكل واضح، ومن ناحية أخرى لإمكانية الإمساك بخيوط السلطة على أساس الموازنة بين الإخوان والناصريين بواقع العداء المستحكم بينهما، إلى جانب متطلبات داخلية وإقليمية ودولية متّصلة بمواجهة التيار الشيوعي المتمدّد من الجنوب اليمني إلى أراضي وسكان الشمال.

التمكين في عهد الصالح والوحدة

ظل نفوذ الإخوان يتصاعد بتحالفهم مع السُلطة في العهود الجمهورية، وتوَّجوا حضورهم في رئاسة علي عبدالله صالح، حيث تمكنوا من المعاهد العلمية، وتوغلوا في وزارتي التربية، والأوقاف، وبدأوا حملات منظمة ضد كل رموز الثورة السبتمبرية، باعتبارهم رموزاً للانحلال الأخلاقي والإلحاد... وغيره من العناوين التي سيطرت على الثقافة المجتمعيّة باتجاه معاداة مفاهيم الحداثة والمدنية، تحت يافطة محاربة القومية والعلمانية "الكافرتين"، وبالنتيجة تصفية الفكر والثقافة السبتمبريتين.

وقد خاضوا سِجالات بدأت بحملات تكفير لأفكار الرموز الوطنية، بداية من أحمد النعمان، عبدالله البردوني، عبدالعزيز المقالح، حمود العودي، وعشرات من الحملات التكفيريّة، مستفيدين من حرب الدولة العسكرية ضد الجبهة الوطنية التي كانت تضم الاشتراكيين الذين تصاعدت مواقفهم الجمهورية منذ المصالحة بين الملكيين والجمهوريين، فقد كانت هذه الجبهة تسيطر على أراضٍ من دولة الرئيس علي عبدالله صالح، فتحالف معه الإخوان في الحرب، ونتج عن ذلك تمكُّنهم من المؤتمر الشعبي العام لإدارة صراعهم ضد اليسار، حيث كان موقف الإخوان هو موقف الدولة بشأن الهُوية الدّينية والانفتاح الاجتماعي والفكر والمعتقَد، وأضر ذلك كثيراً فكر وهُوية الدولة الجمهورية لصالح سيطرة الإخوان على الفضاء الديني والفكري للجمهورية العربية اليمنية.

وحين قامت الوحدة شهدت العلاقة بين الرئيس علي عبدالله صالح والإخوان هزّة عنيفة، تمثّلت في تكفيرهم للوحدة ورفضهم لها، غير أنَّ الصالح سرعان ما أعاد ترتيب تحالفه معهم بإقناعهم الإعلان عن أنفسهم كحزب سياسي يساهم مع المؤتمر الشعبي العام في احتواء “التحالف اليساري الذي سيتحقق عبر الحزب الاشتراكي اليمني”، فاستعادوا الرداء الديني كفاعل رئيس في الدولة والمجتمع، ويتبيّن ذلك من ثقل القوى الدينية السّياسية بعد إعلان التعددية الحزبية مع تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990.

وشهدت سنوات الوحدة الأولى حملات إخوانية ضد اليسار بكل تنويعاته، وصلت لتكفير أبوبكر السّقاف، وجار الله عمر، وعمر الجاوي، وحسن الحريبي، ولقي الإخوان فرصتهم الكبرى عبر حرب 94 التي سيطروا عبرها على “الجنوب” بعد تصدّيهم لحملات التكفير الجماعي للاشتراكي ومن يواليه ويحارب معه.

ما بعد 94

بدأ الإخوان عهدهم الجديد، بوراثة كل فضاء كان للحزب الاشتراكي، بالتهديد المسلح أو بالترغيب عبر التوظيف وغيرها من المصالح، أو عبر دغدغة المشاعر العاطفية باسم الدين باعتبارهم يتصدّون لحماية الإسلام وتمكين شرع الله في اليمن.

تمكّن الإخوان من لعب أدوارهم وتقليص فعالية المكونات الحداثية عبر سيطرتهم على مؤسسات التنشئة الاجتماعية، خصوصاً المدرسة والجامعة والمسجد، ومن خلال حملات ترهيب كبرى جارتهم فيها كل أجهزة الدولة من أمن وقضاء وإعلام رسمي، حيث خاضوا معاركهم ضد الفنون والكُتّاب وجرَّموا كل ما لا ينتمي لتفسيرهم للدّين.

انتصار التفسير الديني.. تحفيز النظائر

مثَّل الانتصار الكبير لرؤية الإخوان وخطابهم، وتحوّل خطابهم الديني إلى مصالح كبرى لهم في الدولة والمجتمع، دعوة للأطراف الأخرى التي تستخدم الجملة الدينية للتعبير عن حضورها..

فنشأت جماعات مختلفة، سلفية وصوفية، ثم الحركات المرتبطة بالثورة الإيرانية، وآخرها الحوثية.

الإخوان وإيران

مثَّلت الثورة الإيرانية ومرشدها، واحدة من تجلّيات “الصّحوة الإسلاميّة” التي تصدّرت لها حركة الإخوان واحتاجت لها الدول الكبرى في سياق حاجتها لحماية النفط من الحركات الثورية اليسارية، حتى إنّ لفظ المرشد والجمهورية الإسلامية والإمام نائب المهدي مفاهيم تسرَّبت للثورة الإيرانية من أدبيات الإخوان وفلسفة سيد قطب، رغم مناقضة ذلك للفتوى الجعفرية التقليديّة التي ترفض الولاية قبل ظهور المهدي، وقد دعمت حركة الإخوان العالمية الثورة الخمينية.

غير أنَّ التأثر الوهّابي على إخوان اليمن، منع قيام أيّ تعاون بين قيادات “الصّحوة الشّيعية”.

وعلى الرّغم من ادّعاء “إخوان اليمن” تمثيلهم للجمهورية الإسلاميّة” الإخوانية وليست الخمينية، فإنّهم في المقابل قادوا الخطاب الديني للجمهورية اليمنية إلى حالة صدام مستمر مع القوى الدينية المختلفة عنهم.. وقد تمكّنت من إخضاع كل الإمكانيات لصالحها، حتّى إنها خاضت حروباً مباشرة للسّيطرة على المساجد وإلزام المصلين بفتاوى مرجعيتها هي كتنظيم.

الحوثي.. ابن شرعي للإخوان

الطبيعة الدينية المذهبية للإيديولوجية الإخوانية، مع تمكُّنها من التغلغل، مستغلة مؤسسات الدولة، في معظم مناطق اليمن، ومن ضمنها المناطق الزيدية، واستقطابها مصالح مغرية، شكّلت حالة استفزاز مذهبي أسهمت في إثارة النشاط الزيدي، على يد تنظيم الشباب المؤمن، ثم نشوء حالات تطرُّف خرجت على كثير من المقولات الزيدية تبلور أخيراً في جماعة الحوثي، الهجينة من الزيدية الجارودية، المتشدّدة والمنقحة بنظريات صفوية خمينية.

ثم استمرّ الإخوان، رغم ظهور الخطر الحوثي على الدولة برمّتها، لا على السلطة الحاكمة فقط، وعلى النسيج الاجتماعي، في وضع هذا الخطر ضمن مسار المكايدات السّياسية عقب تفكُّك التحالف مع السلطة بصورة رسمية في العام 2003.

احتواء الثورة.. إسقاط الدولة

عبر جهودهم الدائمة في تقويض روح الجمهورية، وإعادة سطوة الفتوى والخطابة وتقديمها للناس وكأنّها دين وليست رأيَ قائلها، وإرهاب الفعاليات الاجتماعيّة والثقافيّة وصولاً حتى للأزياء والحفلات والكلمات المتداوَلة، وفَّر الإخوان المسلمون في اليمن أرضيّة خصبة لإحياء الإمامة الكهنوتية بنسختها الحوثيّة، باستعادة الخطاب الدّيني السّياسي، قاعدة الحُكم الإمامي الفكريّة والإيديولوجيّة، ومحاربة فكر وثقافة ثورة 26 سبتمبر الحداثية، من جانب، وتحفيز التطرُّف داخل المذهب الزيدي من الجانب الثاني. والنتيجة ما نراه اليوم من إصرار حوثي على استكمال تدمير بقية مداميك البنية السبتمبريّة الثقافيّة والسّياسية في اليمن.