بعد أن وضعت الحرب أوزارها في اليمن، فإن للسلام استحقاقاته، وأهم ما يتوجب على أطراف الصراع التوصل إليه هو الاتفاق على الدولة الاتحادية المدنية التي تكفل تحقيق العدالة بين الأقاليم، وتمنع سيطرة إقليم على بقية الأقاليم، وتحول ظهور الحاكم الديكتاتور أو الحزب التوتاليتاري، والانتقال من دولة المفتي إلى دولة القانون.
فبعد تسع سنوات من الحرب يجب أن يتبعها سلام مستدام وهذا السلام له متطلباته ما لم فإن الحروب تتناسل وبخاصة في مثل حالة اليمن التي اتخذت فيها الحرب طابعا إثنيا، مذهبيا وسلاليا، فهي حروب دائمة كل حرب تولد أخرى وهذا ما طبع الحروب الأهلية أو بالأصح حروب الانتقام والانتقام المضاد عبر تاريخ البشرية.
إذًا فالعنف مصاحب لحياة البشر منذ أن ظهر الإنسان على وجه الأرض، فلا غرابة، فابن آدم قتل أخاه، ولا غرابة أن تسود الحروب والنزاعات تعاملات البشرية التي كابدت سبعة آلاف عام من الحروب، خلال تاريخها المكتوب، الذي لم يعرف إلا بضعة قرون من السلام، لم تكن، في واقعها، إلا هدنات.
فشرط الإنسانية، البالغ الهشاشة، حكمته دائما، إذن، لعبة موازين القوي بين الدول والكتل المتناحرة وطبعته قسوة وعدوانية الإنسان على أخيه الإنسان.
وقد لا نبالغ إن قلنا إن القرن العشرين هو القرن الذي شهد فيه الإنسان أعنف مظاهر العنف وأشدها تدميرا، سواء على مستويات الفرد أو الجماعة أوالبيئة.
هو القرن الذي عرفت فيه الإنسانية أكثر الحروب شراسة، وأكثر أشكال العنف تنوعا، وهو القرن الذي حظي بأكبر قدر من الثورات والتطورات العلمية والتكنولوجية، التي استُخدمت ووُظفت لغاية الحرب والدمار.
في التاريخ الحديث أوقعت الحروب، التي نشبت في أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى، آلاف القتلى من المدنيين الأبرياء، وارتكب العسكريون المحاربون العديد من الجرائم ضد الإنسانية.
وخلال مجزرة الحرب العالمية الأولى عام 1914، التي استمرت خمسة أعوام، سقط ملايين البشر من المدنيين والعسكريين، فأضيف إلى تاريخ البشرية مزيد من المآسي والكوارث والنكبات والجرائم ضد المدنيين الأبرياء الذين لا دخل لهم في صنع قرار الحرب، في ظل غياب قوانين دولية واضحة تمنع التعرض للمدنيين.
ولم تكد الإنسانية تلتقط أنفاسها، مما خلفته الحرب العالمية الأولى من دمار وخراب، حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939، فأبادت الملايين من البشر، خاصة المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ، ممن لم يكن لهم أي دور أو مشاركة في قرار الحرب.
وأمام هذا الوضع المأساوي واجهت الإنسانية ظاهرة العنف بسن قوانين تحاول وضع حد أو خلق مخارج لهذا الوضع. ولكن علاقة العنف بالقانون ظلت علاقة تلازم وتوتر إلى يومنا هذا.
وعلى هذا المنوال، وبعد جهود مضنية ومتتابعة، وبتفان من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تم اعتماد اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، الخاصة بحماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب.
وليس من باب المبالغة القول إن أهم هذه الآليات هي قيم ومبادئ القانون الدولي الإنساني الذي يطبق زمن الحرب، وعموده الفقري هو اتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكولاها الإضافيان، في ما يعتبر أول منظومة قانونية كونية، من حيث شموليتها، صاغتها الإنسانية المفكرة لإنقاذ الإنسانية المتألمة.
القانون الدولي الإنساني هو، حسب تعريف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، “مجموعة القوانين والضوابط التي تقيد وتنظم وسائل وأساليب القتال في زمن الحرب، وتحمي الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية أو توقفوا عن المشاركة فيها”.
والقانون الدولي الإنساني واجب التطبيق، وملزم لكل أطراف النزاعات المسلحة، وهو ملزم أيضا للقوات التي تشارك في عمليات حفظ السلام.
ويشدد القانون على “المعاملة الإنسانية”، و”التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين”، و”حماية المدنيين من آثار الأعمال العدائية والعقوبات الجماعية”، و”حظر الهجمات الموجهة ضدهم”، و”حماية اللاجئين”، و”منع التهجير القسري”، كما يسعى إلى “منع أسلحة الدمار الشامل”.
وتنطلق هذه المنظومة أساسا من فكرة الدفاع عن الحقوق الأساسية أو الطبيعية المتعلقة بكل ذات بشرية، بهدف احترام الحياة والكرامة الإنسانية المتأصلتين في كل إنسان وتعزيزهما، وهو ما يضفي على القانون الإنساني طابعه الكوني الشمولي.
ومفهوم الكرامة قديم قدم التفكير البشري، وله صياغات خاصة في أغلب الفلسفات وفي كل الديانات، ولكنه جديد من حيث كونيته، ومن حيث اعتبار الكرامة صفة تتوافر في كل الناس، لا نثبتها بل نقررها. هذه الصياغة الكونية الجديدة تعني أن لكل ذات بشرية قيمة في حد ذاتها، وبغض النظر عن المحددات الاجتماعية والدينية والعرقية.
وانطلاقا من هذا المبدأ، يجب التأكيد على أن من حق كل شخص أن يعامل على أساس أنه غاية لا وسيلة، وعلى أنه أغلى من كل شيء، وأن له قيمة قصوى، وأنه قيمة القيم.
الغاية الأساسية من القانون الدولي الإنساني، إذن، هي حماية الأفراد والمجموعات من تبعات قانون الغاب البربري، أي من “هجمة الجنون على التاريخ”، بتعبير المفكر الفرنسي Raymond Aron. وتفيدنا الأدبيات القانونية الفلسفية الحديثة بأن الترجمة العملية لحماية الأفراد يمكن التعبير عنها بـ“تجنب الألم غير المشروع”، أي تجنب الوضعيات والممارسات التي تتسبب في المعاناة، أو في تفكيك الذوات.
وتكللت مجهودات المشرع الدولي بالتوقيع على العديد من الاتفاقيات، التي تعرّف الجرائم الدولية، خصوصاً جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية، بحيث يمكن القول إن معالم قانون دولي جنائي أصبحت واضحة، سواء من حيث الأفعال المؤثمة، أو من حيث المسؤولية الجنائية الشخصية لمرتكبي تلك الأفعال. وبذلك، صار المجتمع الدولي يملك تراثاً زاخراً بمعاهدات، تحاول أنسنة الحروب، وتسعى إلى أن تكون النزاعات، وهي واقع بغيض لكنها واقع، أقل بشاعة، حتى لا يتحول المحارب إلى وحش ضارٍ، غير أن هذا التراكم القانوني يواجهه اليوم العديد من التحديات.
ومن بين المفارقات المطروحة على بساط البحث، نذكر بعض الأسئلة التي تدور في الأذهان: إلى متى يظل القانون الدولي الإنساني قانوناً بلا جزاء؟
وهل يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تنقل هذا القانون من نصوص المعاهدات ومتون الأدبيات القانونية إلى سلوك تلتزم به الدول؟ وما هي آليات القانون الدولي الإنساني في ضوء تطورات الأوضاع الدولية في السنوات الأخيرة، خاصة مع بروز ظاهرة الإرهاب، التي تنخرط فيها أطراف دون هوية محددة، و شبكات ضبابية متعالية عن الحدود و الدول؟ كيف يمكننا تقنين ما يسمى “الحرب على الإرهاب” ووضع ضوابط أخلاقية لها؟ ما هو إسهام القانون الدولي الإنساني في ما يتعلق بالأشخاص المحتجزين في إطار مكافحة الإرهاب وفي الحد من الممارسات المهينة وانتهاك الذوات؟
إن الأوضاع العالمية تجعل مصالح جميع الشعوب تترافق وتتطابق في السعي إلى صياغة ثقافة وتربية على السلام كحتمية إنسانية وضرورة عملية لتطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني، وبالتالي على تجاوز حالات القصور التي أظهرتها المعالجات الدولية السابقة وانعكاساتها السلبية على أمم بأسرها.
وللإسهام في استقراء آفاق وتحديات القانون الدولي الإنساني، لا بد من التأكيد على أهمية تعزيز ثقافة السلم والسلام التي تمكننا من صياغة وعي كوني جديد، ومن تخريج أجيال إنسانية متشبعة بقيم التضامن البشرين لا تنتهك حقوق الإنسان، ولا تسكت على انتهاكها.
وهنا، لا يسعنا إلا أن نؤكد على أن أسس ثقافة السلم والسلام موجودة في كل الديانات السماوية.
فالإسلام، مثلا، أكد على احترام الذات الإنسانية بغض النظر عن انتماءاتها العرقية أو الثقافية أو العقائدية.
وتضافرت نصوص الشريعة لتأمين حماية تضمن تكريم بني آدم: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً” ﴿الإسراء الآية 70﴾.
وكان الإسلام ثورة على الظلم والظلام، ودعوة للحق والسلام، إذ بشّر بالقيم الكونية والحقوق الطبيعية بكل معانيها، وأكد على ضمان حقوق الإنسان في زمن الحرب فعلا وقولا.
وفي مجال الدفاع عن الذات وعدم الاعتداء على الآخر، نجد قوله تعالى: “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” ﴿سورة البقرة الآية 190 ﴾.
وحتى في الحالات التي تقتضي معاقبة العدو بمثل ما عاقب المسلمين، نجد القرآن الكريم يدعو إلى الحكمة والتريث: “وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين” ﴿النحل الآية 126﴾.
كما حث الإسلام على حماية “المدنيين”.
ويشمل هذا المفهوم في التشريع الإسلامي كل مهادن، ومن ليس له رأي في القتال، من الشيوخ والأطفال والنساء والرجال والتجار والصناع والفلاحين والأجراء وأفراد البعثات الطبية والدينية والقضاة والمقعدين وذوي العاهات والأسرى والموظفين، وهو ما ورد في البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف.
وأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم قادة الجيش في الغزوات قائلا: “انطلقوا باسم الله وعلى بركة رسوله لا تقتلوا شيخًا ولا طفلاً ولا صغيرًا ولا امرأة ولا تغلوا (أي لا تخونوا)، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين”، كما نهى عن المثلة، أي التمثيل بالجثث، فقال: “إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور”، وقال أيضًا: “لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا، ولا تقتلوا أصحاب الصوامع”. ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات امرأة مقتولة، فغضب وقال قولته الشهيرة: “ما كانت هذه تقاتل أو لتقاتل”.
وكان أبو بكر الصديق أول خليفة يوصي أمير أول بعثة حربية في عهده ،أسامة بن زيد، قائلا: “لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة ولا تقطعوا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة وسوف تمرون على قوم فرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له”. ونجد هنا أساسا لحماية البيئة أثناء الحرب، وهو ما دوّنه القانون الإنساني في مرحلة متأخرة عند إبرام البروتوكول الأول عام 1977.
وبحث بعض الفقهاء مسألة الأمومة في حالة الأسر، وذكر ابن قدامى المقدسي في “المغني” أنه لا يفرق في السبايا بين الأم وولدها الصغير، حتى إن رضيت الأم بذلك.
وحرّم الفقيه الأوزاعي، ﴿707 – 774م﴾، التعرض للفلاحين والرعاة والرهبان والعجزة وأصحاب الصوامع في وقت الحرب، كما حرم التعرض للصغار والنساء حتى لو تمترس بهم الأعداء، أي اتخذوهم دروعا بشرية، بل إنه منع التعرض لأي موقع قد يكون فيه بعض هؤلاء. كما قضى بعدم جواز تخريب شيء من أموال العدو وحيواناته وأشجاره، استنادا إلى تعليمات خلفاء المسلمين لقادة الجيوش الإسلامية، وخاصة بيان خليفة المسلمين أبو بكر الصديق الذي وجهه إلى يزيد بن معاوية، عندما كان في طريقه إلى بلاد الشام.
إن أنسنة الحروب والنزاعات المسلحة هي قضية ومصلحة مشتركة لجميع دول العالم، مهما اختلفت مواقع المشاركين.
والقوانين الإنسانية ليست شيئا نحصّله أو لا نحصّله في قبضة اليد، بل هي أفق نصبو إليه، ويجب أن نصبو إليه، لأنّ اليأس أمر لا أخلاقيّ، ولأنّ السلبية لا يتغذّى منها سوى أعداء الإنسانية.
ثقافة السلام التي نطمح إليها هي إذن “الجهاد ضد النفس”، بل هي شرط من شروط تجربة العيش المشترك الذي يتحوّل فيه العنف إلى كلام وحوار وتفاوض واقتسام واقتراع.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك