د. صادق القاضي
على مرايا "الرأي العام": اليمن خائفة مخيفة.. حتى إشعارٍ آخر!
في العادة تبدأ "قضية الرأي العام"، بحالة فردية مستفزة.. مثل: اغتصاب طفل، نهب بيت، اعتداء على مواطن، جريمة عنصرية، فساد مسئول، بلطجة مسلح.. إلخ إلخ.
من المهم ضمنياً معالجة هذه الحالة الخاصة، غير أن الأهم، هو مواجهة الظاهرة العامة التي تتضمنها. مثل: اغتصاب الأطفال، نهب البيوت، الاعتداء على المواطنين، الجرائم العنصرية، الفساد، بلطجة المسلحين.. إلخ إلخ.
بدون هذا الانتقال من الخاص إلى العام لا معنى لقضايا الرأي العام التي يجعلها بعدها الجماهيري نافذة موضوعية مهمة للتعرف على هموم واهتمامات أيّ شعب، ومعرفة شخصيته، ووعيه وضميره الجمعي.. ومستوى ثقافته وحسه الحضاري.
هكذا في العالم كله، بما فيه اليمن. رغم وجاهة الشك بكون اليمن حالياً جزءاً من العالم، وإمكانية نفي أن يكون فيها شيء محدد متجانس اسمه الشعب. بقدر وجود شعبيات حزبية ودينية وقبلية.. وأغلبية غائبة ومغيبة عن الشأن العام.!
في كل حال. تتميز قضايا الرأي العام في اليمن، بخصائص جديرة بدراسة مستقلة، لن تخلو من الفنتازيا الساخرة مثل: مطالبة المجتمع، بشكل شبه يومي، بالقبض على قاتل أو مغتصب بعينه، بينما الشوارع مليئة بالقتلة والمغتصبين.!
• هذه "الانتقائية" هي أسوأ خصائص "قضايا الرأي العام" في اليمن. مراكز القوى الفاسدة حتى العظم. تلقي لذبابها الإلكتروني، بين فترة وأخرى، أحد خصومها كمادة لحملة إعلامية تجعله رمزاً للفساد.!
فضلاً عن الأشخاص. هناك انتقائية للقضايا، وفق أولويات خاصة أو وهمية أو مقلوبة، حيث الخطورة الداهمة للسفور، أو الأولوية الحاسمة لتحرير المناطق المحررة.!
يصل الأمر أحياناً حد تصدير الأزمات.. هناك جماهير غفيرة ترى أن حصار طرابلس أخطر من حصار تعز، وأن استعادة الأقصى أولى من استعادة صنعاء.!
• كثيرٌ من قضايا الرأي العام في اليمن. هي من هذا القبيل: السلطات -لا المجتمع- هي من تبلور قضايا الرأي العام كحملات غوغائية موجهة للابتزاز السياسي.. تبدأ من السلطة إلى الشارع وليس العكس.!
• من جهة أخرى. في العالم كله يتم تعميم القضايا الخاصة، وفي اليمن يتم تخصيص القضايا العامة.!
المثال الأقرب قضايا الرأي العام في تعز، تجاه تفشي ظواهر مريعة، كاغتصاب الأطفال، وبلطجة العسكر في المدينة. في ظل سلطة الأمر الواقع هناك.!
بدأت قضايا الراي العام هذه، وستظل تبدأ بقوة وعمومية، ليتم تمييعها في كل مرة، باعتبارها حالات فردية، يتم تمييعها بدورها، كأسلوب لئيم لتخصيصها واختزالها ومن ثمّ نسفها من الأساس.!
والنتيجة ما تزال هذه الظواهر مستفحلة وتتمدد بالسر والعلن، في مقابل فتور قضايا الرأي العام ضدها، وخمول الجماهير، والإذعان العام للسلطات الطارئة!
• كذلك: في العالم كله تنتهي قضية الرأي العام بحل أو تستمر حتى بصمت، وفي أقصى الحالات تنفجر، لتصبح المطالبة بتغيير السلطة أو النظام السياسي الذي يحمي هذه الظواهر أو يتيح لها الانتشار.. هي الشفرة المركزية لثورة عارمة.!
في تونس بدأت ثورة الياسمين بالحالة الخاصة لمحمد بوعزيزي، أيّ بلطمة من شرطية لبائع خضار، كشرارة انتهت بتغيير النظام السياسي برمته.
في اليمن بدأت أحداث 2011، بلا حالة خاصة. بدأت بالمطالبة برحيل النظام السياسي السابق بكله، ثم تراجع هذا المطلب العام المشروع إلى المطالبة بتغيير الرئيس السابق فقط، ثم إلى تقاسم الحقائب الوزارية معه، ثم إلى استعادة شرعية خائبة.!
• في اليمن تبدأ قضية الرأي العام فجأة بلا مناسبة وتنتهي فجأة بلا مناسبة، وفي حين يُفترض أن تحمل قضايا الرأي العام مطالب موضوعية، إلا أنها في اليمن قد لا تحمل سوى المناكفات.!
• في الأغلب تحولت قضايا الرأي العام في اليمن إلى هاشتاجات جماعية تبدأ وتنتهي دون حل حتى الحالة الفردية التي بدأت بها، دخولاً في قضية رأي عام أخرى. وهكذا.. كمادة عبثية لتزجية الوقت في مواقع التواصل الاجتماعي.!
في المحصلة.. تبدو اليمن حالة استثنائية في زمن استثنائي، حيث النخب أسوأ من المجتمع، والمجتمع أسوأ من السلطات، والسلطات أسوأ من بعضها، والوضع من سيئ إلى أسوأ.. والذهول والنسيان واللامبالاة والاستلاب والغوغائية والتفسخ والعدمية.. هي ملامح المرحلة وسيدة الموقف العام في هذه المنطقة الخائفة المخيفة.. حتى إشعار آخر.!